رغم وجود “اختلاف” في السياسات وربما في المصالح بين روسيا وتركيا تجاه العديد من القضايا الإقليمية في الشرق الأوسط، إلا أنه من الواضح أن هناك توجهًا ما لدى البلدين للقفز على قضية الخلاف الرئيسية، ممثلة في سوريا، وخلق مساحات مشتركة، بدافع تعزيز المصالح الاقتصادية، على نحو قد يُقلل من الفجوة بينهما حول هذه القضية.
سياسة “الفصل”:
تُعد مشاركةُ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في اجتماع مجلس التعاون الروسي-التركي، خلال زيارته لتركيا في أول ديسمبر 2014، مؤشرًا على رغبة روسيا في “فصل” القضية السورية عن غيرها من القضايا، في إدارتها لعلاقاتها مع تركيا، وذلك لكون الخلاف حول سوريا جوهريًّا، خاصة أن روسيا ترى في نظام الأسد حليفًا لها، في حين تسعى تركيا إلى إسقاطه. ولعل ذلك يفسر تأكيد بوتين على أن الأسد “يتمتع بالشرعية عبر صناديق الانتخابات” التي أجريت في يونيو 2014، وهو ما رد عليه الرئيسُ التركي رجب طيب أردوغان بقوله أنه “لا توجد إمكانية لتسوية الأزمة في ظل بقاء الأسد”.
كما أن متابعة تصريحات بوتين حول سوريا تفيد بأنه يرغب أيضًا في أن يدفع تركيا إلى التعاون في قضايا فرعية نتجت عن هذا الصراع، مثل الحيلولة دون تكرار النموذج العراقي في سوريا، والذي كانت فيه إيران هى الفائز الأكبر، على حساب تركيا وغيرها من دول الجوار، حيث صرح قائلا: “نحن لا نريد فوضى في سوريا، ولا نريد تعزيز الجماعات الإرهابية”.
وتكشف التطورات الأخيرة عن وجود رغبة مشتركة في تنحية الخلاف حول سوريا جانبًا، حيث تعتمد أنقرة على الغاز الروسي لتلبية احتياجاتها، واستمرار ارتفاع أسعاره يمثل لها مشكلة، خاصة أنها تعد ثاني أكبر مستورد للغاز الروسي بعد ألمانيا. ومن جانب موسكو، فإنها تسعى إلى تنويع علاقاتها الاقتصادية في ظل التأثيرات السلبية للعقوبات المفروضة عليها بسبب الأزمة الأوكرانية، وقد أشار بوتين إلى أن التعاون الاقتصادي مع تركيا يحظى بأهمية خاصة من جانب روسيا، حيث تأتي تركيا في المرتبة الثانية في قائمة الشركاء التجاريين لروسيا، وقد وصل حجم التبادل التجاري بين الدولتين، وفقًا لبعض التقديرات، إلى حوالي 32.7 مليار دولار.
إمكانية التقارب حول سوريا:
هناك خلاف جوهري بين روسيا وتركيا حول الوضع في سوريا، ففي حين دعمت تركيا المعارضة السورية، ساندت روسيا نظامَ الأسد، وقدمت له الدعم السياسي من خلال عرقلة كافة الجهود التي سعت للإطاحة به، والدعم العسكري الذي شمل، طبقًا لعدة تقارير، أنظمة مضادة للصواريخ، وصواريخ مضادة للسفن، وطائرات التدريب، وطائرات بدون طيار.
ويمتد هذا الخلاف أيضًا إلى رؤية الطرفين لكيفية تسوية الصراع، ففي الوقت الذي سعت فيه تركيا إلى تغيير ميزان القوى على الأرض من خلال دعم المعارضة المسلحة، فإن ضعف هذه المعارضة وتفككها لم يمكنها، بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات ونصف على اندلاع الثورة، من حسم الصراع لصالحها، مما يجعلها بالنسبة لتركيا رهانًا خاسرًا حتى الآن. إلى جانب ذلك، فإن مواقف القوى الدولية من الصراع في سوريا لا تتقاطع مع الموقف التركي، ولعل موقف إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما المتحفظ على إقامة منطقة عازلة على الحدود مع سوريا يُعد مؤشرًا مهمًا على ذلك. ورغم اتجاه إدارة أوباما إلى دعم وتدريب المعارضة “المعتدلة” في سوريا، فإن قدرتها على حسم الصراع دون تدخل عسكري خارجي لا تزال محل جدل، خاصة أنه لم يُعلن أن الهدف من تدريبها هو إسقاط نظام الأسد، حيث تحظى الحرب على “داعش” بالأولوية في الفترة الحالية.
إلى جانب ذلك، فإن النتيجة المترتبة على العمليات العسكرية التي تنفذ في سوريا في إطار الحرب على “داعش” ستعزز من موقف نظام الأسد وخطابه الذي صور ما يجري في سوريا على أنه مؤامرة وإرهاب، وليس ثورة، وهو ما يمثل تطورًا إيجابيًا لحلفائه الإقليميين وروسيا، خاصة أن الأخيرة نجحت، وفقًا لاتجاهات عديدة، فى الحصول على تنازلات من واشنطن حول كيفية تسوية الصراع فى سوريا، كما استطاعت فتح قنوات اتصال مع ممثلي المعارضة السورية. وفي هذا السياق يمكن فهم زيارة معاذ الخطيب الرئيس الأسبق للائتلاف الوطني السوري المعارض إلى موسكو، في 8 نوفمبر 2014، لبحث الوضع السوري.
كما تُشير تقارير غربية إلى أن روسيا تمد نظام الأسد بالمعلومات الاستخباراتية، حتى تمكنه من إحباط أية مخططات لـ”داعش” تهدف إلى مهاجمة المناطق التي تخضع لسيطرته، بل إنها طالبت، في 23 سبتمبر 2014، القوى الدولية والإقليمية بالتنسيق مع الأسد لمواجهة تنظيم “داعش”.
وقد دفع نجاح تنظيم “داعش” في تحقيق مكاسب استراتيجية في العراق وسوريا وتزايد قدرته على التمدد في سوريا؛ حلفاء تركيا من الدول الغربية، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، إلى منح الأولوية لمحاربة نظام “داعش” وليس إسقاط النظام السوري، على نحو يترك تركيا دون ظهير دولي يدعم موقفها من سوريا، وهو ما قد يضطرها للتخلي عن هدف الإسقاط الفوري للأسد لصالح قبول ما تطرحه روسيا حول التسوية السياسية للصراع.
وتظل تكلفة هذا التنازل من جانب تركيا مرتبطة بحساباتها الخاصة بحجم التداعيات السلبية المترتبة عليها من استمرار الصراع في سوريا، لا سيما مع زيادة عدد اللاجئين الذين تستضيفهم، والذي بلغ أكثر من 1.5 مليون سوري، حيث أشارت هيئة مكافحة الأزمات والكوارث الطبيعية التابعة لرئاسة مجلس الوزراء التركي، في هذا السياق، إلى أن عدد اللاجئين السوريين في بلدة الريحانية الحدودية أصبح يمثل ثلث سكان الريحانية.
خلاصة القول، إن ثمة مصالح عديدة تجمع كلا من روسيا وتركيا، خاصةً في المجال الاقتصادي، على نحو يبرر توجههما إلى تبني سياسة “الفصل” في التعامل مع القضايا الإقليمية التي تحظى باهتمام مشترك، ورغم أن الأزمة السورية تعد محور الخلاف الرئيسي، إلا أنها قد تكون في الوقت نفسه القضية التي تحقق قدرًا أكبر من التقارب بين الجانبين، لا سيما في حال ما إذا اتجهت تركيا إلى التنازل جزئيًّا عما تسعى لتحقيقه في سوريا.
الكلمات المفتاحية: تركيا، روسيا، نظام الاسد، العراق، داعش، التقارب
نقلا عن المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية