ماذا تريد الصين؟

ماذا تريد الصين؟

شهدت الصين في العقود الثلاثة الماضية تحولا سياسيا ضخما أعاد تشكيل الاقتصاد والمجتمع، حيث انطلق المجتمع الصيني بعنف نحو المشروع الخاص،

وظهر جيل من الشباب الطموح الذي حقق ثروات هائلة في عمر مبكر جدا، وأصبحت الصين تشبه انطلاقة الرأسمالية الأوربية في بواكيرها، أو الولايات المتحدة في بداية نهضتها… فالنخبة الاقتصادية الصاعدة تتوثب للانطلاق إلى جميع بقاع العالم؛ سعياً وراء الثراء السريع بصورة تعتمد على معطيات الثورة التكنولوجية، أو الثورة الصناعية الرابعة، والابتكار، والتجارة واقتناص الفرص بصورة مشروعة وعادلة، وبدون نزعة استعمارية.
واقع الصين الحالي يقول لنا أن المجتمع الصيني يعي بصورة جيدة أنه في لحظة تاريخية فاصلة، لم تتكرر منذ 1421 ميلادية حين استطاع الأسطول الصيني بقيادة الأدميرال المسلم “زينج هي” الذي طاف حول العالم بأسطول مكون من 300 سفينة، واكتشف أمريكا قبل كولومبوس بسبعين عاما، وهناك كتاب يؤرخ لقصته صدر بالإنجليزية عنوانه “ 1421 “، هذه اللحظة التاريخية الحاضرة تتأهب فيها الصين لقيادة الاقتصاد العالمي، فمن المقرر أن تتفوق الصين على الولايات المتحدة في التجارة الدولية, وتكون هي الدولة الأولى في العالم بحلول عام 2025، وبحلول عام 2035 ستكون الصين الدول الأولى في العالم من حيث حجم الدخل القومي الإجمالي، وبحلول عام 2050 سيكون الدخل القومي الصيني تقريبا ضعف الدخل القومي الأمريكي.
في ظل هذا التحول الكبير في الاقتصاد الدولي، وتأهب الصين لحالة التدافع العنيف لتكون الرقم الأول عالمياً؛ من المؤكد سيكون المجتمع الصيني في حالة استنفار اقتصادي شديد، لا مجال فيها لرفاهية الديمقراطية، وألاعيب الانتخابات التي تربك المجتمعات، وتدخلها في حالة من التشتت، وعدم اليقين، والخوف من القادم، وتشابك الحسابات السياسية التي تؤدي إلى تعقيدات اقتصادية لا ترغب القيادة الصينية الدخول فيها. أدركت القيادة الصينية أن تحقيق الهدف الاقتصادي يحتاج نوعاً من الاستقرار والثبات، واستمرار نفس النهج الذي حقق القفزات الاقتصادية المتتالية، ومن ثم كانت الأولوية للاقتصاد، وليست للسياسة، الأولوية لتحقيق الحلم الاقتصادي، وليس للتزين بالحلي الديمقراطية التي قد تكون حلي مزيفةً.
وفي ظل حالة الصراع العنيف مع الغرب عامة والولايات المتحدة خاصة لم تعد الصين تكترث بالتهم التي يوجهها الغرب، ولم تعد تهتم بإرضائه، او الحصول على صكوك الغفران الديمقراطي من معابده السياسية، فالصين والولايات المتحدة في لعبة شد الحبل منذ مدة، وقد تحولت إلى تكسير عظام في الفترة الأخيرة، فمنذ عام 2017 يميل الميزان التجاري بين الصين والولايات المتحدة بمقدار 100 مليار دولار عجز أمريكي لصالح الصين.
فقد نجحت الصين، خلال العقود الاخيرة، في الاستفادة من تدني قيمة عملتها، واستطاعت الهيمنة على العديد من الأسواق العالمية، كان أولها الاقتصاد الأمريكي، بصورة مكنتها من زيادة رصيدها من العملات الأجنبية بصورة غير مسبوقة في التاريخ، حيث وصل رصيدها من الدولار في نهاية شهر سبتمبر 2014م إلى اربعة تريليون دولار (أي اربعة ألاف مليار دولار) وهو أكبر رصيد من النقد الأمريكي خارج الولايات المتحدة الأمريكية.
تحول هذا الرصيد الهائل من الدولارات إلى وسيلة لشراء المواد الخام النادرة لفترات زمنية طويلة، وبطريقة غير مسبوقة، ومبتكرة، فقد وظفت الصين الأزمة المالية العالمية 2008/2009، وقدمت للعديد من دول العالم دعما ماليا سخيا بالدولار الأمريكي؛ نظير توقيع عقود طويلة الأجل لشراء الخامات والموارد الطبيعية التي تملكها، حيث تصل مدة هذه العقود إلى أربعين سنة، وبدون زيادة في الأسعار، وقد تم هذا مع العديد من الدول الأفريقية، ودول أمريكا اللاتينية التي تحتوي أراضيها على معادن نادرة، أو مع روسيا لشراء البترول والغاز.
أن الصين نقلت العديد من صناعاتها التكنولوجية والخفيفة إلى عرض البحر، فأصبحت هذه الصناعات تتم في المياه الدولية القريبة من الدول التي سوف يتم تصدير تلك السلع إليها، وذلك من خلال سفن ضخمة تم تصميمها كمصانع، يعمل فيها المسجونون، حيث لم يعد هناك سجون على الأرض في الصين، فقد تم نقل السجون إلى المحيطات، والبحار الدولية، ولم تعد سجوناً، وإنما أصبحت مصانع، تقوم بصناعة السلع الخفيفة، السريعة، رخيصة الثمن، مثل، لعب الأطفال، الملابس، الإليكترونيات…الخ، ويتم تصديرها مباشرة إلى الدول القريبة من مكان استقرار السفن.
خلاصة القول إن الصين لا تسعى للحصول على قواعد عسكرية، ولا تهتم بتوقيع اتفاقيات دفاع مشترك، وليس لديها صناعات عسكرية ضخمة فتحتاج إلى فتح أسواق لها، وليس لديها استراتيجية للهيمنة على العالم، وبداية نموذج من الاستعمار القديم أو الجديد. ولكنها في الحقيقة تسعى لأن تحقق الحضور الاقتصادي الطاغي الذي يحقق مصالح جميع الأطراف في منافسة حرة مفتوحة لا تعرقلها التدخلات السياسية من القوى الدولية التقليدية، لذلك تفضل الصين المزاوجة بين الاتفاقيات الفردية مع الدول، وبين الاتفاقيات الجماعية بين الصين والمجموعات الإقليمية مثل مجموعة الدول الافريقية أو مجموعة الدول العربية، أو دول أمريكا اللاتينية لأن ذلك يؤمن مصالحها ويضمن لها الحماية من تدخلات الدول الغربية الرافضة لانتشار النموذج الصيني في العالم ومنافسته للنموذج الغربي.
العين الاخبارية