تعاني عدد من الدول وخاصة في منطقتنا العربية من أزمات اقتصادية، كان من نتائجها السلبية تراجع قيمة عملاتها المحلية، وهو الأمر الذي وضع أصحاب المدخرات في موقف صعب، حيث يرون القيمة الحقيقية لمدخراتهم تتراجع بمعدلات لا يعلمون نهايتها.
والبلدان العربية المتأزمة اقتصاديا، نوعان، النوع الأول الذي ألمت به الأزمة الاقتصادية نتيجة عدة اختلالات مثل (مصر، وتونس، ولبنان) والنوع الثاني نتيجة النزاعات والحروب مثل (ليبيا، واليمن، وسوريا، والعراق، والصومال).
ومما يجعل مهمة حماية المدخرات صعبة، أنها تتم بشكل فردي، وبالتالي فإن تحمّل نتيجة استخدام أي آلية لحماية المدخرات يعود سلبا وإيجابا على صاحبها، فالبعض يتجه لشراء العملات الأجنبية، وفريق ثان يتجه للاستحواذ على الذهب، وطرف ثالث يتجه لشراء الأصول الرأسمالية، من أراض وعقارات وخلافه.
والتجارب في العديد من الدول العربية، وخاصة خلال العقد الأخير، جعلت الأفراد يتخوفون من السياسات النقدية للحكومات، سواء بالنسبة لسعر الفائدة أو سعر الصرف.
فمسألة التفكير في الإفادة من أسعار الفائدة المرتفعة التي تقدمها البنوك إبان ارتفاع معدلات التضخم، سرعان ما تتهاوى أمام انهيار قيمة العملات المحلية، فضلا عن أن الحكومات لا تحافظ على سياستها الخاصة بارتفاع سعر الفائدة لفترات طويلة، مما يُشعر مودعي الأموال بالبنوك بالعملات المحلية بالندم وغياب الثقة بالحكومات.
أنواع المدخرات
بداية لا بد أن نفرق بين الادخار والاكتناز، فالادخار هو تجنب جزء من دخل الأفراد أو المؤسسات، عن الإنفاق الحالي، من أجل الدفع به لتمويل عملية الاستثمار، عبر المسارات الفردية، أو من خلال المؤسسات أو البنوك، وبالتالي فهو مال يعاد تدويره داخل الدورة الاقتصادية.
أما الاكتناز، فهو احتفاظ الأفراد أو المؤسسات بجزء من الدخل، وعدم إشراكه في أي نشاط اقتصادي، وبالتالي فهو قرار بإخراج ذلك المال من دورة النشاط الاقتصادي.
وتنقسم المدخرات وفق الوعاء المستوعب لها، إلى نوعين:
المدخرات الرسمية: وهي التي يتم إيداعها في البنوك أو مكاتب البريد، أو المؤسسات التي تحددها الدولة للاحتفاظ بمدخرات الأفراد والمؤسسات، سواء كان هذا السلوك نظير عائد أو فائدة أو بدون ذلك، ومن هنا يسهل إحصاؤها وتقدير نسبتها للناتج المحلي الإجمالي.
المدخرات غير الرسمية: وهي المحتفظ بها في البيوت أو خزائن المؤسسات، ويتوقف حجم هذه المدخرات على عدة أمور منها، نظام الضرائب المتبع، والعائد على المدخرات، وشعور الأفراد بالثقة في المؤسسات المالية، سواء كانت حكومية أو تابعة للقطاع الخاص، وفي الغالب يتم تقييم هذه المدخرات جزافا بدون الوصول لأرقام حقيقية.
وثمة مواقف معينة تجعل الدول تقف على قيمة المدخرات غير الرسمية، وذلك في حالة القيام بتغيير إصدار العملات الرسمية، فيسرع المدخرون بتقديم ما لديهم من مدخرات والحصول على النقود الجديدة، وإلا سيفقدون مدخراتهم.
وأيضا تظهر المدخرات غير الرسمية، حين تعرض فرص جديدة للاستثمار ذات عائد جيد، أو المضاربات، أو في حالة عرض الحكومة أو القطاع الخاص لفرص للاستحواذ على أصول، من أراض وعقارات أو سيارات وخلافه.
كيف تتم حماية المدخرات؟
تختلف آلية التصرف لحماية المدخرات من حالة لأخرى، فإذا كانت عملية تراجع العملات المحلية سريعة، فيكون التصرف هو التخلص منها في أسرع وقت للحصول على بديل آمن يسهل الحصول عليه.
أما إذا كانت عملية التراجع في العملات المحلية بطيئة، ويمكن التنبؤ بها على مدار العام مثلا، فهنا يمكن الاختيار بين البدائل المختلفة، وخاصة إذا كانت البدائل المتاحة تختلف من حيث العائد منها أو القدرة على تسييلها.
ويمكن الإشارة هنا إلى الآليات المختلفة لحماية المدخرات من قبل الأفراد والمؤسسات، ومنها الآتي:
العملات الأجنبية: وهذا هو الخيار السريع الذي يلجأ إليه المدخرون لحماية مدخراتهم، وخاصة إذا كان سهل الحصول عليه، ولكن في الغالب ما يصاحب حالات انهيار العملات المحلية، عجز الجهاز المصرفي عن توفير العملات الأجنبية، لذلك توجد السوق السوداء أو الموازية، لتكون بديلا من السوق الرسمية، لتلبية احتياجات المدخرين، أو المستوردين.
ولكن في ظل واقع الاقتصاديات العربية المأزومة، ليست الأمور مأمونة الجانب فيما يتعلق بسعر الصرف، وخاصة بعد أن تهدأ الأزمات المتعلقة بتراجع قيمة العملات المحلية، فتلجأ الحكومات من خلال تدخلها في سعر الصرف، بتحسين أداء العملات المحلية أمام العملات الأجنبية، مما يعرض المدخرين لخسائر.
وخاصة إذا ما احتفظوا بمدخراتهم في الأجل الطويل، وهو ما يفرض على المدخرين أن يكونوا متابعين لأداء سوق الصرف، سواء كانت رسمية أو غير ذلك.
الذهب: إحدى الآليات المهمة التي يلجأ إليها المدخرون بجانب العملات الأجنبية، لكي يحافظوا على مدخراتهم، ولكن لا بد هنا أن نشير إلى أن الذهب هو الملاذ الآمن في ظل الأزمات، ولكن في الأوضاع الطبيعة، هناك محددات أخرى، تجعل الاحتفاظ بالذهب مخاطرة، لوجود المضاربات في السوق الدولية بين الذهب والنفط، وكذلك أسعار الفائدة في السوق الأميركية.
ومما يميز البديلين السابقين (العملات الأجنبية والذهب) سرعة تسييلهما عند الحاجة، أو انفراج أزمة العملات المحلية.
الاحتفاظ بالأصول: عادة ما يُنصح في حالة وجود تراجع كبير في العملات المحلية، أن يتجه الأفراد إلى تحويل مدخراتهم إلى أصول رأسمالية، من أراض وعقارات أو مصانع أو سيارات وخلافه، ولكن من مشكلات هذا البديل، أن تسييل الأصول قد يستغرق بعض الوقت، وهو ما لا يلائم بعض المدخرين.
الاستثمار في القطاعات المهمة: ومن بين أهم هذه القطاعات، قطاعا الغذاء والدواء، فهما من السلع التي لا يمكن الاستغناء عنها، ويحتفظان بمرونة سعرية عالية، تجعل المستثمر دائما في حالة من التوازن بين قيمة رأس ماله والأسعار المعروضة في السوق، وتحقيق هوامش ربحية مضمونة.
ويعطي هذا البديل فرصة لصانع السياسة الاقتصادية، لترويج مجموعة من المشروعات في قطاعات الغذاء والدواء وغيرها من السلع المضمونة العائد، سواء قام بتنفيذ هذه المشروعات القطاع العام أو الخاص.
ومن الأفضل في هذه الحالة أن تمنح الحكومة العديد من المزايا لتلك المشروعات، لأنها تكفل لها إنتاج سلع يمكن من خلالها الاستغناء عن الاستيراد والحاجة للعملات الصعبة، وبالتالي تحسين وضع العملات المحلية.
المخاطرة بالعملات المشفرة: البعض يطرح العملات المشفرة كأحد البدائل لحماية المدخرات، ولكن يستلزم ذلك توفير عملات أجنبية لشراء العملات الرقمية، كما يفرض جانبا كبيرا من المخاطرة، وبخاصة في ظل ما تعرضت له هذه العملات خلال الفترة الماضية، من تراجع كبير في قيمتها، ولكن يذهب البعض إلى أنها فرصة جيدة في الأجل الطويل.
ومن الأمور التي يصعب التعامل معها في العملات المشفرة، أنها تكاد تكون آلية لدى الصفوة، وليس عموم المدخرين، الذين لا تتوفر لها إمكانية التعامل مع تكنولوجيا سوق العملات المشفرة.
ختاما، إذا كان إصدار النقود هو من الحقوق السيادية للدولة، فمن واجباتها أيضا أن تقوم بتأمين وحماية عوائد مساهمة الأفراد في النشاط الاقتصادي، ومن بين تلك العوائد، المدخرات، ولا يضمن حماية المدخرات إلا بناء الاقتصاديات القوية.
المصدر : الجزيرة