الدولة الليبية والعصبية القبلية التي يدعو البعض إلى تحجيمها

الدولة الليبية والعصبية القبلية التي يدعو البعض إلى تحجيمها

طرابلس – مع الكثير من صور التمدّن الظاهرة في ليبيا، يبدو أن الطابع القبلي لا يزال الأكثر تأثيرا. ووفقا لعينة عشوائية من 50 شخصا، خضعوا لاستطلاع رأي مباشر أجرته وكالة الأنباء الألمانية في العاصمة الليبية طرابلس، يتضح أن الصبغة العامة لليبيا والمجتمع الليبي عموما “قبلية بنسبة تتجاوز 70 في المئة”، وهي نسبة تخوّف منها الكثيرون على الرغم من إقرارهم بوجودها في عصر التمدّن والعولمة.

وتشغل الدولة المتوسطية مساحة 1.7 مليون كيلومتر مربع، من شمال أفريقيا، وتعتبر العربية لغتها الرسمية، إلا أن سكّانها ينحدرون من سلالات متعددة: عربية وأمازيغية، وتارقية، وتباوية، وأفريقية، وتركية (كرغلية وشركسية)، ويونانية ورومانية، وغيرها.

ومنذ القدم، سيطر النظام القبلي على البلاد، ولا يزال الأقوى، رغم مظاهر العمران التي بدأت منذ ثلاثينات القرن الماضي إبان الاحتلال الإيطالي، وأخذت في التوسع بعد استقلال البلاد في الخمسينات، وعقب اكتشاف النفط في العقد اللاحق.

ويقول محمد العجيلي، وهو أحد الباحثين المهتمين بهذا الشأن، “من الصعب السيطرة على دولة بهذا الاتساع، دون الاستعانة بالقبائل التي فرضت كل منها وجودها وتأثيرها على منطقتها منذ قرون، وتمتلك نظامها المتوارث”.

وتؤكّد الشواهد أن “سلطة القبيلة في ليبيا (ولو بنسب متباينة) غير رسمية”، لكنها “حقيقة واقعة”. ولهذا نجد القبائل تتصدى لبعض المهام التي تعجز الدولة في أحيان كثيرة عن التكفل بها، مثل فض المنازعات، بل والحروب أحيانا، كما تكرر ذلك خلال السنين الأخيرة، وباعتراف الحكومات الليبية المتعاقبة، وبتكليفات رسمية أحيانا لأعيان وحكماء القبائل.

ويقول الكاتب الصحافي محمد الصريط “عندما ترى ليبيا بشعبها ومبانيها وطرقها، تشعر كأنك في حضرة المدنية، وما إن يحدث خطب أو مشكلة، حتى يحضر الوجه الآخر، ويستظل كل بقبيلته، ما يجعلك تدرك أن جين القبلية نشط جدا، وفعّال، رغم عدم إظهار نفسه، في المدن على أقل تقدير”.

وحتى في ضواحي أكبر المدن، مثل طرابلس، وعند وقوع مشكلة أو جريمة ما، قد تجد القبيلة أول من يتدخل، سعيا للملمة الموضوع، وهذا لا يعني أن تدخلها “لا يتقاطع مع عمل الجهات الأمنية، ولا يؤثر سلبا على عملها في أحيان كثيرة”.

وفي ضواحي بنغازي وشرق البلاد عموما قد يزيد التعقيد. ويقول الصريط عن ذلك “في مثل هذه الأحوال قد تفرض القبيلة على الجهات الأمنية السيناريو الذي يناسبها، وغالبا ما تضطر الجهات الأمنية إلى الإذعان تحت قوة القبلية. وحتى الجهات الأمنية تجد أغلب منتسبيها ينتمون إلى القبيلة المسيطرة في كل مدينة”.

أساس الصراع الذي عصف بليبيا طيلة السنين الماضية “ليس قبليا”، بل “سياسي اقتصادي استغلت فيه القبيلة ودفعت إلى خوضه

ويضيف “هو قانون غير مكتوب، يتيح لشيخ القبيلة فرض رأيه والتحكم في كل أفرادها، حتى من يحمل منهم الشهادات الأكاديمية العليا”. فما الذي يمنح القبيلة كل هذا التأثير؟

لعل السبب يكمن في “برود حضن الدولة المدنية وعدم نضوجها، ما أعاد المواطن إلى دفء القبيلة المضمون”، كما يقول العجيلي.

ويستدرك “الليبي لا يجد مؤسسات حقيقية ترعى مصالحه وتضمن حقوقه وتؤمن على صحته وتحفظ كرامته وماله، بل قد لا يجد حتى من يعرّفه بحقيقة حقوقه المدنية كمواطن. وظروف كهذه قد تقود إلى التماس الملجأ والستار لدى القبيلة”.

ولعل أكثر ما يدعو إلى الاستغراب أن القبلية في ليبيا “ليست مرتبطة بالبدو فقط”، بل بالحضر أيضا، ولو بنسب أقل، حتى إن العدوى طالت بعض ذوي الأصول التركية من “الكراغلة أو الكرغلية” كما يسمون في ليبيا، والذين انضموا إلى القبائل الأقرب جغرافيا في الشرق، كما يؤكد الصريط. ومع الوقت، بدأ المظهر العام ينحو إلى المناطقية كبديل عن القبلية، ولكن بنفس حدة النزعة العنصرية.

“في مصراتة مثلا تستطيع لمس أثر المناطقية كبديل عن القبلية”، كما يقول الصريط، ولهذا نجد هذه المدينة تدافع عن نفسها وعن مصالحها ومصالح أبنائها ككيان واحد، رغم أن أصول أهلها مختلفة بين عرب وأمازيغ وأتراك. وينسحب نفس الأمر على مدن أخرى.

ويقول محمد الهادي،أحد الليبيين، “أشعر بالاستفزاز عندما يسألني أحدهم عن قبيلتي، لإني لا أنتمي إلى قبيلة، بل إلى منطقة سوق الجمعة في طرابلس، حيث لا قبائل”. وفي اعتقاد الهادي فإن مثل هذه الحالة “هي ما يدفع سكان المدن إلى اتخاذ نهج مناطقي متعصب للمدينة، ومضاد للمد القلبي”.

عند وقوع مشكلة أو جريمة ما، قد تجد القبيلة أول من يتدخل، سعيا للملمة الموضوع، وهذا لا يعني أن تدخلها “لا يتقاطع مع عمل الجهات الأمنية، ولا يؤثر سلبا على عملها في أحيان كثيرة”

ويضيف قائلا “في الحواري الضيقة بمدننا القديمة شرقا وغربا وجنوبا، لا وجود لابن العم أو الخال، بقدر وجود الجار، دون أهمية لأصوله. والمؤسف أن هذه الأجواء بدأت تتغير خلال السنين الأخيرة، والدولة غائبة عما يحدث”.

وبخلاف ضعف الدولة وعدم نضوج مؤسساتها، يظهر الاستطلاع مداخل أخرى تقود لترسيخ القبلية في البلاد، وقد تكون في الواقع “أكثر قبحا”، وتحدث عندما يتم “توظيف القبلية في السياسة”.

ولهذا شواهد كثيرة، يسرد الصريط أحدها، قائلا “عندما انتهى النظام القمعي سنة 2011، وعاد المعارضون من غربتهم في العالم المتحضر، وعقدنا الآمال في أن يبثوا بعض المدنية بأركان الدولة المحملة بقرون من التعسف والبداوة، وجدنا أغلبهم يلتحف بقبيلته حتى يضمن فرصا أكثر في الوصول إلى السلطة. لقد ظهر ذلك واضحا منذ أول انتخابات في 2012، واستمر استغلال القبيلة في الترويج والتسويق والتلميع، وأحيانا الترهيب، وبأوجه مختلفة، حتى يومنا هذا”.

وبالطبع، هناك طرق لاستغلال القبيلة في تحقيق الطموحات السياسية، أبرزها “المحاصصة”. لقد كانت الباب الأكبر الذي دخل منه مستغلو القبيلة خلال السنين العشر الأخيرة، حيث يتم من خلالها توزيع المناصب وفق الأقاليم والمناطق.

ويقول العجيلي “المحاصصة تعني تجاهل الكفاءة في نيل المناصب والوظائف عامة، واعتبار الأصل والنفوذ القبلي أو المناطقي أولا، وهذه إحدى أعظم كوارثنا على مستوى المجتمع والدولة معا”.

وعنها قال رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي في اجتماع للمصالحة الوطنية بطرابلس الأسبوع الماضي “لقد أوجدت المحاصصة صيغا هشة لتقاسم السلطة والثروة والنفوذ، وأفشلت كل تجارب بناء السلطة في ليبيا”.

ومع كل ذلك، يقر الكثيرون بأن أساس الصراع الذي عصف بليبيا طيلة السنين الماضية “ليس قبليا”، بل “سياسي اقتصادي استغلت فيه القبيلة ودفعت إلى خوضه”، ولهذا يرون أن تحجيم دور القبيلة في البلاد “بات ضرورة”.

العرب