تعالت الأصوات خلال 2019 على إثر الاحتجاجات الشعبية، التي شهدها العراق للمطالبة بتعديل مواد الدستور، الذي ولد عندما كانت البلاد آنذاك تحت سيطرة الاحتلال الأميركي (2003-2011).
وفي ظروف أمنية وسياسية عصيبة، وبعد تصويت الشعب على الدستور في 2005، بدأت تلك الأصوات بالانخفاض تدريجاً، خصوصاً مع إقامة الانتخابات المبكرة وحدوث أزمة سياسية استمرت لأكثر من عام، وانبثاق حكومة جديدة.
وعلى رغم الخلافات والجدل الكبير على كثير من مواد الدستور العراقي، التي تعد أزمة متكررة أمام كل دورة انتخابية جديدة، باتت الضغوط الشعبية على القوى السياسية في هذا الإطار قليلة.
أجواء سليمة وهادئة
الباحث السياسي نبيل جبار التميمي قال إن الاتفاقية السياسية الموقعة بين الأطراف الأساسية المشكلة للحكومة (تحالف إدارة الدولة) لم تتضمن أي إشارة حول إعادة النظر في الدستور أو مواده، أو حتى النية بإجراء تعديلات ملحة على مستوى التغيير الجذري في هيكله، أو تلك التي ترتبط بإجراء تحسينات على بعض المواد.
وأضاف التميمي أن المنهاج الوزاري لرئيس الوزراء محمد شياع السوداني تضمن مواد واسعة، إلا أنه لم يتطرق مطلقاً لقضايا التعديلات الدستورية، وأشار إلى أنه على رغم أن المرحلة السياسية واجهت أطول انسداد سياسي منذ التغيير في 2003، وكان جوهر الصراع مرتبطاً بشكل أساسي بفهم وتطبيق المواد الدستورية، الذي أرغم المحكمة الاتحادية للخوض في مثل هذه القضايا وإصدار قرارات وتوضيحات، تلقتها الأطراف والكتل السياسية بين ترحيب وامتعاض، إلا أنها لم تضع ضمن أجندتها حلاً لأزمة قيادة الدولة وتنظيم الحياة السياسية.
وأوضح أن الأطراف السياسية قد ترى في مناقشة القضايا الدستورية ما يمثل وضع العصا في دواليب العملية السياسية، وقد يكون اختيارها لمناقشة هذه القضية مرتبطاً بتهيئة أجواء سليمة وهادئة أكثر بعد الانتخابات المقبلة.
صياغة مواد الدستور
ويدور الجدل حول المواد الدستورية التي هي محط خلافات وأزمات سياسية، إذ أكد رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي فائق زيدان، في وقت سابق، وجوب إعادة النظر بصياغة مواد الدستور التي سببت حالة الانسداد السياسي، التي شهدها العراق على إثر إقامة الانتخابات المبكرة في أكتوبر (تشرين الأول) 2021.
وقال زيدان إن “اختصاصات المحكمة الاتحادية محددة دستورياً بموجب المادة (93)، وإن القضاء يدرك الخروقات الدستورية التي حصلت بعد الانتخابات التشريعية”، وشدد على “وجوب إعادة النظر بصياغة مواد الدستور المعرقلة لتشكيل السلطات الدستورية، التي سببت حال الانسداد السياسي وما رافقها من أحداث مؤسفة بأن يتم النص على جزاء مخالفة أي نص دستوري بصياغة واضحة غير قابلة للاجتهاد أو التأويل”.
غياب الضغوط الشعبية
بالمقابل، كشف الباحث السياسي العراقي صالح لفتة أنه في الوقت الراهن الأولوية لدى مجلس النواب والكتل السياسية ليس التعديلات الدستورية، لأنه لا توجد ضغوط شعبية كبيرة أو مطالبات في هذا الجانب، لذلك تركت جانباً مع أهميتها الكبيرة لزيادة الاستقرار وتوزيع السلطات وتنظيم العلاقات والصلاحيات بين المركز والإقليم والمحافظات وإدارة الثروات الطبيعية للدولة.
وقال لفتة “للأسف أكثر القرارات تأتي بعد أن تصل الأمور للاحتقان، كما حدث في تظاهرات “تشرين” التي نتج منها تعديل قانون الانتخابات وتشكيل لجان لتعديل الدستور وطرح بعض المواد التي تحتاج لتعديل أو توضيح أو إلغاء أو إقرار، ثم بعد أن خف الضغط الشعبي تم تمييع تلك العهود والوعود”، وأوضح أنه لإقرار التعديلات الدستورية على الجميع أن يدرك أن أي دستور في العالم يعدل وتغير فيه مواد وتضاف أخرى جديدة من أجل الشعب والمصلحة العليا للدولة و”ليس بدعة لم يسبقنا غيرنا بإجرائها، فلماذا الخوف وترحيل مشكلات الدستور للمستقبل؟”.
وأكد على أن “تلك التعديلات ضرورة ملحة لزيادة الاستقرار، وإذا كان الجميع، (نقصد أصحاب القرار من زعماء وقادة)، تهمهم مصلحة العراق عليهم البدء في حوارات ومناقشات جادة حول التعديلات الدستورية لتأخذ الوقت الكافي من أجل الوصول للتعديل المناسب وعدم انتظار أزمات سياسية في المستقبل وإقرارها على عجالة لتولد أزمات جديدة”.
تفسير نصوص الدستور
وكان رئيس المحكمة الاتحادية العليا القاضي جاسم محمد عبود أكد خلال مطلع العام الحالي، أن “المادة 93 من الدستور حددت اختصاصات المحكمة الاتحادية العليا، التي من ضمنها النظر في القضايا التي تتعلق بدستورية القوانين وتفسير نصوص الدستور، وأيضاً الطعن بصحة القرارات والأنظمة والتعليمات والإجراءات التي تصدر من السلطة الاتحادية”.
وأضاف عبود، خلال مقابلة صحافية، أن “ديباجة الدستور تضمنت أن العراق بعد أن مر بمراحل صعبة وحرجة تمثلت بالتكفير والإرهاب، فإن ذلك لم يثن البلاد عن أن تمضي قدماً لبناء دولة القانون، ولم توقف الطائفية والإرهاب والعنصرية من أن يسير الشعب بتعزيز الوحدة الوطنية وانتهاج سبيل التداول السلمي للسلطة وتبني أسلوب التوزيع العادل للثروة، ومنح تكافؤ الفرص لجميع العراقيين”. وأكد أن “الالتزام بهذا الدستور يحفظ للعراق اتحاده الحر شعباً وأرضاً وسيادة، وهذا ما ورد في ديباجة الدستور التي تعد جزءاً منه”، وأوضح أن “المادة الأولى من الدستور نصت على أن جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة، ونظام الحكم فيها جمهوري نيابي برلماني ديمقراطي وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق، أي إن الغاية منه هي بناء نظام ديمقراطي برلماني، والغاية الرئيسة منه الحفاظ على وحدة البلد من شماله إلى جنوبه”.
وأشار إلى أن “المادة 109 من الدستور نصت على أن تحافظ السلطات الاتحادية على وحدة العراق وسلامته وسيادته ونظامه الديمقراطي الاتحادي، أي إنه بموجب الدستور فإن مهمة جميع السلطات الاتحادية الحفاظ على وحدة البلاد ولا يجوز لأي سلطة اتحادية أن تنتهج أي سبيل يؤدي إلى عدم تحقق هذه الوحدة”. ولفت إلى أن “المادة 129 من الدستور نصت على أن تنشر القوانين في الجريدة الرسمية وهذا مهم جداً، ويعمل بها من تاريخ نشرها ما لم ينص في القانون على خلاف ذلك، بالتالي نشر القانون وجوباً لكي يعمل به من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية”.
اختصاصات رئيس الجمهورية
ونوه بأن “الدستور حدد اختصاصات رئيس الجمهورية، بالتالي عندما يحدد اختصاصات لرئيس الجمهورية ولرئيس مجلس النواب أو لرئيس الوزراء، فإن هذه الاختصاصات لا يجوز أن تهمل ولا يجوز أيضاً أن تستخدم لغير الغرض الذي شرعت من أجله بموجب الدستور، وإنما يجب أن تطبق وفق ما يحقق للعراق مصلحته شعباً وأرضاً وسيادة”.
ولفت إلى أن “المادة 73 ثالثاً من الدستور نصت على أن يتولى رئيس الجمهورية صلاحيات المصادقة وإصدار القوانين التي سنها مجلس النواب، وتعد مصادقاً عليها بعد مضي 15 يوماً من تاريخ تسلمها”. وأكد أن “نشر القانون في الجريدة الرسمية وجوبي لغرض تطبيقه، بينما عدم نشره وعدم المصادقة عليه من قبل رئيس الجمهورية تعد مخالفة لأحكام دستور جمهورية العراق وفق ما تم في المادة 73 ثالثاً”، موضحاً أن “المحكمة قررت إلزام رئيس الجمهورية بوجوب المصادقة وإصداره ونشره في الجريدة الرسمية”.
وحول تعديل قانون المحكمة الاتحادية، أوضح القاضي عبود أن “المحكمة لم تقدم أي مقترح بخصوص موضوع تعديل الدستور، سواء ما يتعلق بالمواد الخاصة بها أو بغيرها”، لافتاً إلى أن “المحكمة حالياً تعمل في ضوء ما وجد بما نص عليه الدستور عبر المادة 92 و93 باعتبارها هيئة قضائية مستقلة مالياً وإدارياً”.
من الدساتير الجامدة
هل يمكن التعديل؟ الخبير القانوني علي التميمي كشف أن الدستور العراقي من الدساتير الجامدة وليس المرنة، أي التي لا يمكن تعديلها إلا بإجراءات طويلة عريضة نصت عليها المواد 142 و126، حيث لا بد من تطبيق المادة 142 أولاً، كما يقول قرار المحكمة الاتحادية 54/ 2017.
وقال التميمي “لا بد على البرلمان أن يشكل لجنة التعديل، وأن يوافق على تعديلاتها بالأغلبية المطلقة لعدد أعضائه، أي نصف العدد الكلي زائد واحد بعد تحقق النصاب، وأن يعرض على الاستفتاء ويوافق نصف المصوتين زائد واحد، وألا يعترض على التعديل ثلثا المصوتين في ثلاث محافظات”. وشدد على أن المواد التي تحتاج إلى تعديل أولاً، شكل النظام السياسي، إذ نحتاج إلى التحول إلى النظام الرئاسي الأفضل للعراق، وحل المادة 140 المتعلقة بالمناطق المتنازع عليها، والمادة 73 صلاحيات الرئيس وشكل البرلمان، وأيضاً ممكن أن يكون النظام السياسي مختلطاً كما في فرنسا، أي ينتخب الرئيس من الشعب، وينتخب رئيس الوزراء من البرلمان وتكون صلاحيات الرئيس أكبر.
وأشار إلى أنه بعد أن حل البرلمان السابق، وفق المادة 64 من الدستور العراقي وإجراء الانتخابات التشريعية المبكرة، ثم بعد ذلك يعرض الدستور للتصويت على البرلمان الحالي وتعديلاته والشعب مصدر السلطات دائماً. وأوضح أن ما قامت به رئاسة الجمهورية من إرسال تعديلات مقترحة يمكن للبرلمان أن يأخذها من باب الاستئناس بالرأي، لأن القرار أخيراً بيد البرلمان وفق المادة 142 ويمكن للبرلمان الحالي أن يشرع بذلك دستورياً.
اندبندت عربي