يقول مثل صيني: إذا كان “الثوب يمنح الرجل هيبة، فإن المال يمنحه الجرأة”.. يجسد هذا المثل موقف الصين التي لا تزال مصنفة “دولة نامية”. وتتمسك بهذا التصنيف، وتصر عليه، وتدافع عنه، على الرغم من كونها إمبراطورية عملاقة لا يمكن لأي مراقب تهميش مكانتها الدولية، وهي العضو الدائم في مجلس الأمن الدولي، وتتمتع بحق النقض (الفيتو) وهي من بين أكبر دول العالم مساحة، ويبلغ عدد سكانها نحو مليار و400 مليون نسمة، وهي المنافس الأول للولايات المتحدة.
وبقدر زهدها في “ثياب الهيبة” حال تبديل تصنيفها من دولة نامية إلى قوة عظمى، بقدر حرصها على تعزيز “الجرأة”، في قوتها المالية والاقتصادية، فهي ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم، بعد الولايات المتحدة، وأكثر دولة مصنعة في العالم، ولا يخلو بيت في المعمورة من وجود منتج صيني.
وأولت الصين اهتمامًا خاصًّا بتطوير علاقاتها مع دول الجنوب النامي بواسطة مشروعها الاقتصادي، الذي أطلق عليه “حزام واحد، طريق واحد”، واستثمار عشرات المليارات من الدولارات في هذا المشروع.
هذا الموقف محل انتقاد غربي فالأصوات المنادية بتجريد الصين من وصف دولة نامية لا تتوقف سواء في أوروبا أو الولايات المتحدة، وتترد في أكثر من مناسبة دولية آخرها مؤتمر المناخ الذي عقد في مدينة شرم الشيخ المصرية.
وتجمع هذه الأصوات على أن الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم ودولة صناعية بامتياز وصاحبة قوة عسكرية ضاربة، تستفيد من تصنيفها ضمن الدول النامية، ومن ثم تستطيع شركاتها تحقيق ميزة تنافسية مقارنة بنظيرتها الغربية بسبب إعطائها نسبة خفض أقل في الانبعاثات الكربونية ولفترة زمنية أطول.
هذا الأمر أثار حفيظة السيناتور الجمهوري دان سوليفان الذي قدم في الشهر الماضي مشروع قرار يمنع الولايات المتحدة من التصديق على “تعديل كيغالي” لبروتوكول مونتريال وهو اتفاق دولي لتقليل استهلاك وإنتاج مركبات الكربون.
هذه التعديلات تجعل بروتوكول مونتريال أداة أقوى ضد تغير المناخ حتى تقوم الأمم المتحدة بتعديل تصنيف الصين، والمقصود هنا وضعها على قدم المساواة مع الولايات المتحدة وأوروبا، بحيث تقوم بنسبة الخفض نفسها وفي فترة مماثلة لها، وهذا يشابه مطالبات الإدارة الأميركية فيما يتعلق بالمناخ خلال فترة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
تشريعات ومساعدات
كما تتجسد في مشروعات قوانين آخرها مشروع قانون قدمه السيناتور ميت رومني (جمهوري) والسيناتور كريس فان هولين (ديمقراطي) في 9 فبراير/شباط الماضي، بعنوان “إنهاء قانون وضع الأمة النامية في الصين”.
وينص التشريع على أن الولايات المتحدة يجب أن ترفض الدخول في معاهدة يتم فيها تصنيف الصين كدولة نامية أو تتلقى مزايا دولة نامية بموجب شروط المعاهدة.
ويجادل أعضاء مجلس الشيوخ الذين تبنوا هذا التشريع بأنه من خلال التمسك بعلامة “الأمة النامية”، فإن الصين تتبرأ من مسؤوليتها في تعزيز أهداف المعاهدات الدولية على مستوى الدولة المتقدمة.
وفي تسليط الضوء على التوتر بين مكانة الصين الاقتصادية في العالم وتصنيفها كدولة نامية، قال رومني: “من السخف أن تبقى الصين تُعامل كدولة نامية في المسرح العالمي نظرا لنفقاتها الدفاعية والكم الهائل من الاستثمار الأجنبي الصادر والداخل”.
أما زميله السيناتور دان سوليفان فيقول “بأي مقياس عادل فإن الصين ليست دولة نامية، ولا ينبغي أن تكون قادرة على استغلال تنازلات الأمم المتحدة والمساعدات التي تمولها الولايات المتحدة في كثير من الأحيان. من أموال دافعي الضرائب.. والعلاقة الكبرى غير العادلة وغير التبادلية بين الولايات المتحدة والصين يجب أن تتغير”.
يذكر أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب كان مشغولا هو الآخر بهذا الأمر حيث سبق وخاطب في تغريدة خلال فترة ولايته من منظمة التجارة الدولية في 26 يوليو/تموز عام 2019 قائلا: “حين تكون الدول الأكثر ثراء وتؤكد أنها من بين الدول النامية لتفلت من تطبيق قواعد منظمة التجارة الدولية عليها لكي تحظى بمعاملة تفضيلية،.. يجب أن ينتهي هذا الأمر الآن”.
وغير بعيد عن الموقف الأميركي من تصنيف الصين دولة نامية يسأل دير بيك أحد نواب البرلمان الألماني (البوندستاغ) مستنكرا عن سبب تلقي الصين 630 مليون يورو كمساعدات إنمائية من ألمانيا في عام 2017، على الرغم من أن الصين استثمرت 180 مليار يورو في أفريقيا وحدها بين عامي 2000 و2016 ويقول إنه لا يستطيع أن يفهم سبب استمرار الصين في تلقي أموال دافعي الضرائب الألمان لبناء اقتصادها الذي يشهد ازدهارا.
وفي فرنسا حيث تحتل الصين المرتبة التاسعة بين الدول التي تحصل على دعم تنموي منها، فجّر نائب فرنسي من حزب الجمهوريين تساؤلا مزلزلا عند مناقشة مجلس النواب مشروع القانون المالي لعام 2022 عما إذا كان من الطبيعي أن تستمر الصين في الحصول على دعم مالي من فرنسا، وكأنها واحدة من الدول النامية؟ حيث حصلت في السنة المالية 2020 على مبلغ 140 مليون يورو مساعدة من بلاده.
هدايا التنين
على الرغم من حقيقة أن الصين لم تحوّل نفسها إلى قوة اقتصادية عالمية حتى وقت قريب، فإن المساعدات الخارجية ليست غريبة عنها، فتاريخ جمهورية الصين الشعبية في مساعدة البلدان الأخرى يكاد يكون قديمًا قدم النظام نفسه.
في النصف الأول من السبعينيات، أنفقت الصين نحو 7% من إنفاقها الحكومي على المساعدات الخارجية، ومنذ أواخر التسعينيات، شهد العالم جولة أخرى من النمو الملحوظ في المساعدات الخارجية للصين. ووفقا لبيانات رسمية لبكين صدرت عام 2020، بلغت المساعدات الخارجية الصينية حوالي 3.12 مليارات دولار، أي ما يقارب المساعدات الخارجية التي تقدمها فرنسا.
لكن أصواتًا غربية أوروبية وأميركية تصور المساعدات الخارجية الصينية مرارا على أنها “وسيلة لتحقيق مصالح الصين الذاتية وأدواتها لتقويض جهود المانحين الغربيين للنهوض بحوكمة أفضل”، بيد أن بكين ترى أن تلك المخاوف الغربية “ليست سوى تكتيكات تشويه ضد صعود الصين” الذي لا مفر منه؟
تبرير صيني
تشيو جينغ أكاديمي ومحاضر صيني يقول إنه بينما كان يلقي محاضرة أمام بعض الأصدقاء الأجانب عن بلاده وما إن قال إن الصين هي أكبر دولة نامية حتى ضحك الجميع، فهُم يعتقدون أنها “قوة عظمى”، وتنسب نفسها إلى “الدول النامية”.
هذا الانطباع يخرج به الزائر لمدن صينية مثل العاصمة بكين، أو شانغهاي، أو تشونغتشينغ، أو شيآن وغيرها من المدن الصينية الكبيرة، فهي بمعالمها الأحدث وبالمقارنة مع العديد من المدن الأوروبية الكبرى ومستوى الحياة الحضرية، الأفضل من كثير المدن في الدول المتقدمة، وتجعل الزائر يشعر أنه في دولة متقدمة.
ويعزز هذا الانطباع أيضا أن الصين لديها العديد من شركات التكنولوجيا الفائقة مثل تنسنت، وهواوي، وعلي بابا، كما دأبت تقارير إعلامية غربية ـفي تغطيتها للتوتر التجاري بين بكين وواشنطن في الفترة الأخيرةـ على وصف الصين بـ”الدولة المتقدمة” الصاعدة بسرعة والتي تتحدى وضع “زعامة العالم” الذي تتمتع به الولايات المتحدة الأميركية.
وحسب جينغ فإن تنمية الصين قد حققت بالفعل نتائج رائعة، ولكن مقارنة بالدول المتقدمة في أوروبا وأميركا الشمالية، لا تزال الصين دولة نامية وأمامها طريق طويل لتصبح دولة متقدمة، نظرا لعدم توازن التنمية، والفجوة بين الحضر والريف حيث تبلغ نسبة الحضر في الصين حوالي 58%، مقارنة مع 80% في البلدان المتقدمة. كما أن هناك فجوة كبيرة في الدخل بين سكان الحضر وسكان الريف.
والمناطق الريفية الفقيرة متخلفة للغاية، كما يقول المحاضر الصيني، لدرجة أنه يصعب الوصول إليها بسبب وعورة الطرق. وعلى الرغم من أن الصين أحرزت تقدما كبيرا في بناء الطرق، ما زالت كثافة شبكة الطرق في البلاد منخفضة تعاني الصين من مشكلة عدم توازن التنمية بين مناطقها الشرقية ومناطقها الغربية.
وعلى الرغم من أن البنك الدولي صنّف الصين ضمن البلدان ذات الدخل المتوسط والعالي، فإن متوسط نصيب الفرد في الصين من الدخل الوطني في عام 2017، كان 7 آلاف و310 دولارات، أي ما يعادل 15% من نظيره في الولايات المتحدة ونحو 25% في فرنسا، وهو ليس بعيدا عن البلدان المرتفعة الدخل فحسب، بل وأقل من المتوسط العالمي البالغ 10 آلاف و387 دولارًا أميركيًّا، وما زال فيها 30 مليون فرد يكابدون الفقر، وأكثر من 80 مليون فرد معاق، وأكثر من 200 مليون مسن يحتاجون إلى الرعاية، و15 مليون فرد يحتاجون إلى فرص عمل جديدة سنويا.
الزعيم الصيني السابق دينغ شياو بينغ الذي قاد البلاد بين عامي 1978 و1992 كان يرى أن أحد عناصر قوة بلاده يكمن في “إخفائها قدراتها والوقوف متأهبة في هدوء”، كما تبنى رؤية اقتصادية أسهمت بتحقيق البلاد نهضة اقتصادية كبرى. وله نبوءة أطلقها عام 1978 قال فيها إن الصين تحتاج إلى نصف قرن لاستكمال عملية التحديث والسيطرة السياسية والاقتصادية.
ويبدو أن الزعيم الحالي شي جين بينغ يسعى جاهدا لتحقيق تلك الغاية، قبل نهاية الأعوام الست المتبقية من فترة نبوءة دينغ شياو إحدى أدواته في ذلك هو إكمال المشروع الجيوسياسي الضخم “الحزام والطريق” الذي يثير مخاوف واشنطن حال اكتماله، والغالب أن بكين ستظل زاهدة في لقب القوة العظمى حتى لو اكتمل المشروع.
المصدر : الجزيرة