عندما تدخلت روسيا في الصراع السورى عام 2015، غير تدخلها العسكرى تماماً من خريطة التفاعلات الداخلية والخارجية في سوريا؛ فعلى مستوى تفاعلات الداخل؛ رجحت روسيا بتدخلها العسكرى كفة النظام السورى في مواجهة المعارضة المسلحة، وبحلول عام 2019، كان النظام قد استعاد توازنه واستكمل خريطة سيطرته على معظم المناطق التى كانت خاضعة للمعارضة، باستثناء إدلب التى خضعت لاتفاق تخفيض التصعيد في مارس 2020 “اتفاق إدلب 2” بين روسيا وتركيا.
أما على مستوى التفاعلات الإقليمية والدولية، فاستقرت التعاطيات بين القوى المنخرطة في الأزمة عند حد “توازن المصالح” الاستراتيجية، مما أدخل الأزمة في مرحلة “الثبات والجمود”؛ وهى المرحلة التى توقفت معها مسارات البحث عن تسوية سياسية للأزمة.
ومع انخراط روسيا في بؤرة صراع جديدة في أوروبا بشنها حرباً عسكرية ضد أوكرانيا في 24 فبراير 2022، قابلتها الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية بمعارضة شديدة وأيدت فيها أوكرانيا عسكرياً واقتصادياً ولوجستياً، وفرضت عقوبات متتالية على روسيا، بدا أن ثمة اصطفافات دولية وإقليمية جديدة بين مؤيد لروسيا وآخر لأوكرانيا وثالث يتوسط المسافة بينهما قد بدأت تتشكل، وبدا أيضاً أن اصطفافات الفواعل الإقليمية في الأزمة مثل تركيا وإيران وإسرائيل، وهى الفواعل نفسها التى تتجاذب تفاعلات التنافس والصراع في الأزمة السورية، قد فرض معادلة صراع جديدة داخل أوروبا كان لها انعكاساتها وتداعياتها السياسية والاقتصادية على العالم والشرق الأوسط عامة، وعلى الأزمة فى سوريا خاصة؛ وذلك كنتيجة طبيعية لتعارض مصالح القوى الدولية والإقليمية، وهى نفسها في الأزمتين الأوكرانية والسورية.
ولأن الأزمتين لهما أبعاد دولية وإقليمية تعكسان نمطاً من الصراع الممتد والمفتوح على كل الاحتمالات، فإن تطورات الانخراط الروسي في الحرب ضد أوكرانيا، وبعد مرور عام كامل على اندلاعها، قد ألقت بتأثيرات واضحة على الأزمة السورية.
تأثيرات سياسية
حرصت روسيا، بعد 8 سنوات على تدخلها العسكرى في سوريا، على ضمان استمرارية التنسيق مع غيرها من القوى الدولية والإقليمية بالرغم من تعارض المصالح مع بعضها، واستهدفت – بعد أن ضمنت تفوق النظام واستعادة سيطرته على مجريات الصراع مع المعارضة – الحفاظ على مصالحها فى سوريا وتحويل الإنجاز العسكرى إلى إنجاز سياسى يضمن إعادة تأهيل النظام السورى ليكون جزءاً من معادلة التسوية المأمولة، بما يعنيه ذلك من دفع القوى المعارضة للنظام إلى إعادة التطبيع معه (تركيا والدول العربية)، ودفع الآخرين لرفع العقوبات التى فُرضت عليه أو تقليص تأثيراتها (الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا)، مستفيدة في ذلك من قناعة مماثلة لدى الولايات المتحدة الأمريكية والدول العربية وتركيا وإيران بما تم التوصل إليه في معادلة الصراع السوري الداخلية، مع بقاء تفاعلاتها البينية في حالة هدوء تارة وتجاذب تارة أخرى، دون أن تؤدى هذه التفاعلات إلى تغيرات “حدية” في خريطة النفوذ السورية.
وبالرغم من أن معادلة التفاعلات في الأزمة السورية – حتى كتابة هذه السطور- لاتزال خاضعة للتصور السابق، إلا أن ذلك لم يمنع تأثرها بالعديد من التطورات الناتجة عن تفاعلات روسيا في الأزمة الأوكرانية، لكن اللافت في الأمر أنها لم تؤد إلى انتكاسات حادة على حالة ثبات وجمود الصراع في الأزمة السورية. فبعد عام كامل من الحرب واصطفاف إيران والنظام السوري إلى جانب روسيا في مقابل اصطفاف الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا إلى جانب أوكرانيا، وتوسط تركيا المسافة بين المتصارعين من باب لعب دور الوسيط، وتأرجح إسرائيل مع/ ضد روسيا، وفقاً لحسابات تفاعلهما في الجنوب السوري، بدت معادلة التفاعل الدولية بهذا المنطق مستقرة إلى حد ما على الساحة السورية، لكن في الوقت نفسه هذا الاستقرار لم يمنع وجود تداعيات سياسية واضحة منها:
1- تراجع محاولات إعادة دمج النظام السوري في المجتمع الدولي، بما يعني تراجع احتمالات الانفتاح الغربي التدريجي على النظام، والتي كانت لها مؤشراتها الواضحة خلال عام 2021، حيث ينظر الغرب للنظام السوري باعتباره امتداداً للنفوذ الروسي، لا سيما بعد سماح النظام بسفر مقاتلين داعمين لروسيا إلى ساحة الحرب في أوكرانيا. لكن اللافت هنا ارتفاع وتيرة التقارب السياسي بين النظام السوري وعدد من الدول العربية كمصر والجزائر والعراق والأردن والإمارات وتونس، وكذلك محاولات إعادته للجامعة العربية.
2- بقاء معادلة العلاقات الروسية-التركية رهناً لتعاطى تركيا مع أزمة أوكرانيا؛ فمن الملاحظ أن تركيا فطنت لأهمية عدم مناصبة روسيا العداء فى أوكرانيا فقررت لعب دور الوسيط بين الجانبين الروسى والأوكرانى؛ لإدراكها مدى تأثير ذلك على تفاعلاتها مع روسيا فى سوريا وتحديداً فى موقفين: الأول، صراعها مع الأكراد السوريين فى شمال سوريا، وحاجة تركيا الدائمة إلى موافقة روسيا على أى عملية عسكرية تجريها هناك؛ فالعمليات العسكرية الثلاثة التى أجرتها تركيا فى شمال سوريا على مدى الفترة من 2016 إلى 2022، كانت بموافقات ضمنية من قبل روسيا، الأمر الذى انعكس فى تراجع تركيا على مدار العام الماضى ومطلع العام الجارى أكثر من مرة عن تهديداتها بعملية عسكرية واسعة جديدة فى مناطق منبج وتل رفعت ضد قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، لعدم حصولها على موافقة من روسيا ولكون الأخيرة ترغب فى الدفع بالنظام السورى ليكون جزءاً من معادلة الاستقرار الأمني في مناطق الشمال السوري، إلا أن متغير الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة نفسها يضع حدوداً لرغبة تركيا من ناحية، وموافقة روسيا من ناحية ثانية على عملية عسكرية تركية رابعة في الشمال السوري، في ضوء انشغالات روسيا بحربها في أوكرانيا.
والثاني، معطيات الاتفاقات الأمنية الروسية التركية بشأن إدلب ( 2018- 2020) التي تقبع فيها المعارضة السورية المسلحة بنوعيها؛ فحالة التوافق الروسي-التركي بشأن اتفاق إدلب سيكون عرضة للتصعيد من قبل روسيا حالة أى تغير يطرأ على الموقف التركي من الأزمة الأوكرانية، فقد قبلت روسيا قيام تركيا بدور الوسيط في حربها ضد أوكرانيا، لكنها لن تقبل بتحولات حدية في هذا الدور لصالح أوكرانيا لأنها ببساطة ستضغط على مصالح تركيا الأمنية في إدلب.
3- استخدم روسيا آلية إدخال المساعدات الإنسانية عبر المعابر السورية الحدودية كأداة تفاعل مع المجتمع الدولي على هامش تفاعلاتها في الأزمة الأوكرانية؛ فآلية إدخال المساعدات الدولية عبر الحدود السورية كانت قد تمت وفقاً لترتيبات ثنائية روسية-أمريكية قبل الانخراط العسكري الروسي في أوكرانيا أسفرت عن القرار رقم 2585 عام 2021، فالعراقيل التي وضعتها روسيا أمام تجديد التفويض داخل مجلس الأمن للآلية نفسها (يونيو 2021)، استخدمتها روسيا كورقة ضغط مقابل تنازلات في موقف الدول الغربية حيال حجم ونوع العقوبات المفروضة عليها من ناحية، وحيال الدعم الغربي اللامحدود لأوكرانيا على المستويين العسكري والاقتصادي من ناحية ثانية.
لكن يلاحظ هنا أن استخدام روسيا لهذه الورقة غاية في الأهمية، لأن إدخال المساعدات ضرورة لدمشق أكثر من كونها ضرورة كأداة ضغط، وذلك من أجل الحفاظ على النظام السوري قائماً في ظل أزمته الاقتصادية الحادة، بل بات أكثر إلحاحاً حالياً جراء كارثة الزلزال المدمر الذي تعرضت له الأجزاء الشمالية من سوريا في 7 فبراير 2023، لأن استمرار اللعب بورقة آلية إدخال المساعدات في ظل الظروف الراهنة في سوريا من شأنه أن يلقي بتبعات حادة على المصالح الروسية في سوريا.
4- الربط بين العملية السياسية في سوريا وبين مسار الصراع في أوكرانيا؛ فبعد عام على الانخراط الروسي في أوكرانيا بدا واضحاً أن موسكو ليست بصدد الدفع بعملية التسوية في سوريا إلى واجهة الأحداث على المدى المنظور، أولاً لأنها منشغلة تماماً في أوكرانيا وتكرس فيها كل قوتها العسكرية بصورة دفعتها إلى سحب بعض من قواتها فى سوريا. وثانياً لأنها ستستخدم الورقة السورية وكذلك الأوكرانية بالتبادل كأوراق ضغط على مناوئيها في الأزمتين. يصادف ذلك تراجع مجمل الاهتمام الدولي بالأزمة السورية وتحديداً بعملية التسوية السياسية نتيجة الانشعال الكامل بتطورات وتداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية.
فالمسار السياسي للأزمة شهد حالة جمود، وتوقفت فعالياته عند مسار عقد جلسات الإصلاحات الدستورية بدءاً من عام 2019. وفي عام 2021، تم تفعيل الدبلوماسية الأممية “خطوة مقابل خطوة”، التي اعتمدت على خطوات متبادلة من جانب النظام السوري والمعارضة في ملفات محددة، وفي مارس ويونيو 2022، عُقدت الجولتان السابعة والثامنة من مباحثات اللجنة الدستورية دون تحقيق أى جديد بشأن الإصلاح الدستوري؛ حيث أن الراعي الرسمي لتدشين مسار الإصلاح الدستوري كبديل عن التسوية الشاملة وهى روسيا كانت قد بدأت حربها ضد أوكرانيا في العام نفسه.
التداعيات العسكرية
كانت سوريا ساحة عسكرية مؤثرة بصورة غير مباشرة في الحرب الروسية-الأوكرانية، سواء من حيث مشاركة المقاتلين السوريين من الجانبين في الحرب: النظام لصالح روسيا والمعارضة لصالح أوكرانيا، أو من حيث التأثير في مجريات العمل الميداني في سوريا والتداعيات الناتجة عن حالة الانشعال العسكري الروسي بالحرب فى أوكرانيا، ويمكن تفصيل ذلك فيما يلي:
1- سحب روسيا لعدد من قواتها العسكرية العاملة في سوريا، وقد أقرت روسيا بهذا الأمر، إلا أنها قللت من تأثيره على الوجود العسكري لها هناك، على اعتبار أن القوات التي سحبتها هى قوات نخبة من الخبراء والفنيين العسكريين، لكن بعض المصادر أكدت أن روسيا سحبت قوات نخبة مقاتلة ممن اكتسبوا خبرة الحرب الميدانية في سوريا للدفع بهم في ساحة الحرب الأوكرانية. ولم يتوقف الأمر على سحب قوات فقط، وإنما قامت بسحب بعض منظومات الدفاع الجوى أيضاً. بمعنى أكثر دقة، باتت أولويات روسيا العسكرية هى تفاعلات الميدان الأوكراني وليس الميدان السوري على الأقل في المرحلة الراهنة. لكن ثمة آراء تقول بأن الانسحاب الروسى من الميدان السوري هو انسحاب “جزئي” ليس له تأثير حاد على مكتسبات قوات النظام السوري ولن يساهم في تقليص سيطرته على المناطق التي استعادها من المعارضة المسلحة، خاصة مع هدوء جبهات المواجهة في سوريا منذ عام 2019.
في المقابل، ثمة من يقول بعدم وجود انسحاب روسي حتى ولو جزئي من سوريا، وإنما هى عملية “إعادة تموضع” للقوات الروسية؛ بمعنى عدم وجود أى فراغ عسكري استراتيجي روسي على الأرض. وإن كان المرجح فعلياً وجود نوع من الانسحاب العسكري الروسي أياً كان مسماه جزئياً أو نوعياً؛ ويدلل أنصار هذا الرأى بتوقف عمليات المتابعة العسكرية الدورية التي كانت تقوم بها القوات الجوية الروسية وقوات الشرطة العسكرية لمناطق البادية السورية ضد عناصر تنظيم “داعش” وخلاياه. بالإضافة إلى هدوء جبهة المواجهات الروسية مع عناصر “هيئة تحرير الشام” في إدلب بالرغم من العوائق التي لازالت تعرقل تنفيذ اتفاق مارس 2020، فيما يتعلق بالممر الآمن لطريق m4 الاستراتيجى.
2- استفادة إيران عسكرياً على أرض الصراع السوري بسحب روسيا لعدد من مقاتليها في سوريا، ودفعهم لساحة الحرب في أوكرانيا؛ حيث أخلت روسيا عدداً من قواعدها العسكرية ونقاط للشرطة العسكرية وسلمت الإشراف عليها لقوات الحرس الثوري الإيراني وقوات حزب الله اللبناني. يضاف إلى ذلك وجود نشاط ملحوظ للمليشيات التابعة لإيران في مناطق واسعة من دير الزور بالقرب من الحدود مع العراق، وكانت قبل اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية تتقاسم الإشراف العسكري في بعض مناطق دير الزور مع القوات الروسية، لكن مع سحب روسيا لبعض قواتها من المنطقة باتت المليشيات الإيرانية صاحبة الامتياز في الاشراف الأمني في منطقة يسكنها أغلبية سنية.
ويتوقع المراقبون أن تتولى المليشيات الإيرانية، كعادتها في العراق، إحداث قدر كبير من التغيير الديموغرافى في هذه المنطقة لصالح الشيعة على حساب السنة، وهو أمر يصعب حدوثه في ظل وجود القوات الروسية.
3- وجود بوادر لتحريك الجبهات في مناطق خفض التصعيد بعد بدء الحرب الروسية-الأوكرانية؛ فوفقاً لمتخصصين، فإن تغيير روسيا لمهامها العسكرية في سوريا مع بدء حربها في أوكرانيا من مهام قتالية إلى مهام حفظ الأمن والاستقرار، أغرى الفاعلين الدوليين بتصعيد الوضع في بعض مناطق خفض التصعيد، وتظهر بعض مؤشراتها في: ارتفاع نبرة التهديدات التركية بعملية عسكرية رابعة في شمال سوريا، وتحديداً منبج وتل رفعت بمحافظة حلب غرب الفرات، لإخراج مقاتلى حزب العمال الكردستانى التركي المعارض، الذى تساعده قوات سوريا الديمقراطية “قسد”. والسبب في ذلك مخاوف أنقرة من أن يؤدي الانشغال الروسي بأوكرانيا إلى عدم تنفيذها لوعودها بتولي مهمة التنسيق مع “قسد” لفك دعمها لقوات حزب العمال الكردستاني التركي وإبعاد الطرفين الكرديين السوري والتركي المعارض لعمق 30 كم عن الحدود التركية.
أيضاً عودة تركيا للضغط على مسارات التموين والإمداد للقوات الروسية الموجودة شرق الفرات حال تراخي روسيا في مراقبة المنطقة الآمنة التي ترغب تركيا في إقرارها شمال سوريا. هذا إلى جانب اقتراب المليشيات الإيرانية من نقاط التماس مع المعارضة السورية في إدلب؛ خلال الربع الأول من 2022 الماضي، مستفيدة من استبدال روسيا لمهامها العسكرية معها، مما أثار غضب تركيا والمعارضة السورية، وربما كان ذلك من عوامل تراجع تركيا عن العملية العسكرية التركية غرب الفرات مخافة أن تستخدمها المليشيات الإيرانية كذريعة للتدخل في إدلب، في وقت انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا، الأمر الذي يصعب على تركيا فيه الالتزام بالاتفاقات الأمنية الثنائية بشأن إدلب.
أما الجبهة الأكثر استعداداً للتصعيد تأثراً بالانشغال الروسي بأوكرانيا فهى جبهة الجنوب السوري، والتي دخلت خفض التصعيد بناءً على تسويات وتوافقات روسية-أمريكية تقضي بإبعاد القوات الإيرانية مسافة 80 كم بعيداً عن حدود الجولان المحتل. فقد شهد الجنوب السوري نشاطاً إيرانياً غير معتاد منذ مارس 2022، وهو ما يسبب قلقاً لدى كل من الأردن وإسرائيل؛ ويفسر هذا القلق تصعيد الأخيرة عسكرياً داخل الجنوب السوري خلال العام المذكور. ويفسر أيضاً تأرجح الموقف الإسرائيلي من روسيا في حربها ضد أوكرانيا، نتيجة تراجع وتيرة التنسيق الأمني المشترك في الجنوب السوري على وقع انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا.
انعكاسات اقتصادية
تعانى سوريا شأنها شأن العديد من دول الشرق الأوسط أزمة اقتصادية حادة ازدادت حدتها على وقع الحرب الروسية-الأوكرانية؛ وانعسكت تداعياتها في:
1- تردي مستوى إمدادات الغذاء والطاقة وانخفاض قيمة الليرة وارتفاع معدلات التضخم ومعدلات البطالة،واللافت أن سوريا خلال سنوات الصراع كانت تعاني أيضاً من أزمة اقتصادية، لكنها لم تصل إلى مستويات من الحدة كالتي وصلت إليها منذ اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية؛ وذلك يعود إلى تراجع مستوى التمويل والدعم المالي والاقتصادي الذي كانت توفره روسيا للنظام السوري إلى جانب الدعم العسكري.
هذا بخلاف معاقبة أوكرانيا للنظام السوري بوقفها إمدادات الحبوب على خلفية مساندة النظام لروسيا ميدانياً في أوكرانيا بتجنيد مرتزقة من المقاتلين السوريين من ناحية، ومساعدة إيران الداعمة للنظام السوري لروسيا بإمدادات عسكرية استخدمتها الأخيرة في ضرب عدة مدن أوكرانية من ناحية ثانية.
2- اتساع مساحة الدعم الإيراني للنظام؛ فلم يعد قاصراً على الدعم العسكرى، بل تعداه إلى تقديم الدعم الاقتصادي بالرغم من إشكاليات الداخل الإيراني وضغوط العقوبات الاقتصادية، وذلك لمواجهة تراجع المساعدات الروسية الاقتصادية للنظام السوري على خلفية الحرب في أوكرانيا.
فوفقاً لمتخصصين، فإن إيران استطاعت رغم ظروف الحصار والعقوبات الاقتصادية أن تُنشئ شبكة مصالح اقتصادية كبيرة داخل سوريا على مدار سنوات الأزمة، بما يعني أنها ستكون رقماً اقتصادياً مهماً في معادلة إعادة الإعمار، ومشاركاً قوياً في مشروعات البنية التحتية، وما يرتبط بذلك من تعزيز النفوذ الإيراني في كافة مناطق السيطرة الروسية داخل سوريا والتي تراجعت بفعل الحرب في أوكرانيا.
3- تراجع ملحوظ في معدلات الاستثمار الروسي في الاقتصاد السوري أواخر عام 2022، مع تراجع في معدلات توريد القمح الروسي لسوريا، الأمر الذي يفاقم من الأزمة الاقتصادية التي يواجهها النظام، بما قد يؤثر على حالة “الاستقرار الهش” في المناطق التي استعادها من المعارضة المسلحة. فضلاً عن تأثيرات الزلزال المدمر الذي ضرب شمال سوريا مؤخراً على الجانب الإنساني المتدهور بطبعه، وما ينتج عنه من تباطؤ وصول المساعدات الإنسانية وخضوعها على مدى الأيام الأولى للكارثة للمساومات بين النظام وبين المنظمة الأممية، ومحاولات الأول توظيف الكارثة لكسر عزلته دون الاعتبار لتأثيراتها الحادة على النازحين السوريين في هذه المناطق والذين كانوا يعيشون أساساً على المساعدات الدولية، وجدير بالذكر هنا أن روسيا وعلى وقع تفاعلات حربها في أوكرانيا، سبق وأن استخدمت آلية إدخال المساعدات الإنسانية عبر المعابر في سوريا، قبل وقوع الزلزال، كورقة ضغط في تفاعلاتها مع المنظمة الدولية والولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا.
وأخيراً، تبدو تداعيات الأزمة في أوكرانيا حاضرة وبقوة على الحالة السورية من باب كون الفواعل الدولية والإقليمية المنخرطة في الأزمة السورية هم أنفسهم المعنيين بالحرب الروسية-الأوكرانية، وتبدو كذلك الأوضاع المستقرة في سوريا، إلى حد ما، قابلة للتصعيد على وقع التأثيرات السابق ذكرها بأبعادها السياسة والعسكرية والاقتصادية، باعتبارها ارتدادات ناتجة عن تفاعلات القوى المعنية بالأزمتين مع بعضها البعض.
لكن اللافت هنا أيضاً أن هذه القوى نفسها تبدو “حريصة” على الإبقاء على حالة الاستقرار التي تم التوصل إليها في سوريا منذ عام 2019 قائمة، حتى مع قناعتها بأنه “استقرار هش” عرضة لأية ارتدادات حادة جديدة تفرضها تفاعلاتها المستقبلية سواء في سوريا أو أوكرانيا. ومن ثم، فإن هذا الحرص من شأنه أن يزيد من احتمالات العمل على تعزيز هذا الاستقرار مستقبلاً، بمعنى أن تلك القوى ربما ترغب في تركيز تفاعلاتها لمجريات التغيير الذي تحدثه الحرب في أوكرانيا على اعتبار أن نتائجها ستشكل النظام العالمى الجديد، أما العودة إلى التصعيد على الساحة السورية بعد 12 عاماً على اندلاع الأزمة و7 سنوات من التدخل الروسى فيها فباتت محكومة بالعديد من السياقات والمسارات والمباحثات المتعددة بين الفاعلين الإقليميين والدوليين المنخرطين فيها، وكلها أدت إلى تثبيت مواقف أطراف الأزمة عند حالة من التوازن والاستقرار في خريطة المصالح والنفوذ.
مركز الأهرام للدراسات