تطبيع العلاقات وحلُّ الخلافات بين مصر وتركيا

تطبيع العلاقات وحلُّ الخلافات بين مصر وتركيا

قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو كلاما مهما عقب انتهاء زيارته إلى القاهرة أخيرا، فحواه أن الطريق أمام استئناف العلاقات الدبلوماسية أصبح ممهدا بعد أن أكد حرص بلاده على أنها لم ولن تضر بالمصالح المصرية، وهو ما لم يحظ باقتناع كامل في القاهرة التي تمضي بمبدأ أن النوايا الحسنة لا تكفي لبناء علاقات قوية بين الدول، فما بالنا بتركيا التي أتقنت فن المناورات السياسية؟

وجد خطاب أنقرة الإيجابي مردودا مواتيا في القاهرة، غير أنه لم يكن كافيا للإعلان رسميا عن حل جميع الخلافات معها، وجرى الربط بينها وتطبيع العلاقات، عكس ما تصبو إليه تركيا التي تريد التطبيع أولا ثم الشروع في تسوية ما تبقى من خلافات.

تبدو هذه واحدة من تعقيدات العلاقات الدولية حاليا وتدور حولها نقاشات واسعة، فبعض الدول ترى أن التطبيع يقود إلى الحل بينما هناك أخرى ترى العكس، ولكل فريق تقديرات تعزز رؤيته، وفي ظل هذين النموذجين وثبوت صوابهما أو فشلهما تصبح المسألة صعبة، لأن نوعية القضايا والأزمات بين الدول تحدد اختيار الصيغة الملائمة.

في حالة الأزمة بين مصر وقطر، جرى إعلان التطبيع من دون حل جميع الخلافات دفعة واحدة، وخلقت الخطوات التي اتخذت من قبل الدوحة تحديدا أرضية للتعجيل باستئناف العلاقات الدبلوماسية، وتركت بعض القضايا الشائكة معلقة أو تم تجميدها إلى حين تتوافر الأجواء اللازمة لتسويتها، وهو ما تريد أنقرة الوصول إليه مع القاهرة، بزعم وجود متشابهات بين الحالتين التركية والقطرية.

◙ إشكالية التطبيع أم حلُّ الخلافات تظل تراوح مكانها بين البلدين بلا ضجيج يعيد التوتر، لأن ترتيب الأولويات في أحد تجلياته يعني أن الطرفين وصلا إلى مستوى لا تجوز فيه العودة إلى الوراء

توجد بالفعل قواسم مشتركة في بعض الخلافات بين البلدين ومصر، غير أن القضايا الرئيسية التي قادت إلى تعميق الأزمة مع أنقرة وعدم حدوث ذلك مع الدوحة أفضت إلى الفرق الشاسع في طريقة التعامل بينهما، فعندما قبلت مصر مبدأ الليونة مع قطر كان الخلاف منصبّا على أداء الإعلام ودعم الإخوان والتيارات الإسلامية المتطرفة.

ومع تركيا تضاف إلى ذلك ملفات شائكة وحيوية مثل الأزمة الليبية والتقاطعات السلبية في شرق البحر المتوسط والتدخلات المستمرة في أراضي سوريا والعراق.

تكفي الملفات الثلاثة للحديث عن فوارق جوهرية بين تعجيل مصر بتطبيع العلاقات مع قطر والبطء النسبي مع تركيا، إذا أخذنا في الاعتبار أيضا أن المحدد الاقتصادي متشابه في النموذجين تقريبا على الرغم من التباين الحاصل في الحسابات المصرية من حيث آليات الدعم والمساعدات والمنح والاستثمار والتبادل التجاري.

كما أن الملفات الثلاثة تتشارك فيها أطراف أخرى من الضروري ألاّ تشعر بالقلق أو تعتقد أن التطبيع سوف يرتد عليها سلبا، لذلك فالموقف المصري لا بد أن يكون دقيقا ومحددا ومطمئنا حيال التصرفات التركية المقبلة لأن مساحة المراوغة في كل منها عالية ويمكن أن تقدم أنقرة وعودا أو تقطع على نفسها عهودا ثم تتراجع عنها.

يُوجد هذا التباين صعوبة في تكرار النموذج القطري، والذي لا يزال لم يصل إلى مرحلة التطبيع الشامل مع مصر، فالصمت الإعلامي على الجانبين لا يشير إلى أنه تم طيّ خلافات المرحلة السابقة، والتغافل عن ملف الإخوان أو تجميده ووضعه داخل الثلاجة مؤقتا من قبل قطر لا يعني أنها تخلّت عنه أو نبذته تماما.

قبلت القاهرة التطبيع مع الدوحة ضمن صيغة عربية مدفوعة بتشجيع أميركي، بينما مع أنقرة يتم بصورة فردية، فما قطعته تركيا من تطورات مع السعودية والإمارات ومصر يتم بطريقة أحادية، ربما يخدم كل منها الآخر، غير أن المحصلة في مستوى العلاقات تختلف من دولة إلى أخرى، ما يضفي عليه شكلا متدرجا.

يسعى النظام التركي نحو قطف ثمار تطبيع علاقاته مع مصر سريعا، وهو يعلم أن محددات القرارات مرسومة في أنقرة وتغيب الجهات التي تشترك معها، بمعنى أن التأثيرات الإقليمية والدولية محدودة فيها، ولا يوجد تشابك مع قوى أخرى توجب التمهل، كما هو الحال بالنسبة إلى مصر، والتي لم تعتد على المصالح التركية في الإقليم، في حين بعض تصرفات أنقرة ألحقت أو كادت تلحق ضررا بالمصالح المصرية.

حوت تصريحات كبير الدبلوماسية التركية مولود جاويش أوغلو مضامين إيجابية بشأن عدم الاعتداء على حقوق مصر في ليبيا وإشادة بتصوراتها البحرية في شرق المتوسط وإمكانية التفاهم في مجال الطاقة بالمنطقة، وكلها عناصر تبدو كافية لبث عناصر الثقة في أنقرة، غير أنه تجاهل أن احتياج القاهرة إلى خطوات ملموسة هو النقطة المركزية للقول إن هناك استئنافا فوريا للعلاقات السياسية.

◙ بعض القضايا الشائكة تركت معلقة أو تم تجميدها إلى حين تتوافر الأجواء اللازمة لتسويتها، وهو ما تريد أنقرة الوصول إليه مع القاهرة، بزعم وجود متشابهات بين الحالتين التركية والقطرية

تشير التطورات الأخيرة إلى وجود حراك كبير بين البلدين وأن خطوة إعلان التطبيع باتت أقرب من أيّ وقت مضى، إلا أن إصرار القاهرة على حل الخلافات قد يعرقلها، حيث لديها مخاوف من ألاّ تفي أنقرة بما تم التوافق حوله من تفاهمات أو تضطر لتأخيرها بما يقود إلى واقع يغيّر من المعادلة الراهنة التي أجبرت تركيا على استدارتها نحو قوى مختلفة في المنطقة.

تشبه الحالة المصرية – التركية نظيرتها السعودية – الإيرانية، فالضجة التي صاحبها قرار استئناف العلاقات بين الرياض وطهران بوساطة صينية مرهون على ما تقدم عليه إيران من خطوات تعزز قناعة السعودية بالخطوة، فبعد سنوات طويلة من الخصام والخلافات والصراعات والنزاعات السياسية والأمنية والعقائدية يصعب التوصل إلى علاقات طبيعية قبل تفكيك القنابل التي تعترض طريقها.

يحتاج الربط بين التطبيع وحل الخلافات النظر إلى خصوصية كل حالة وما إذا كان يجب تزامنهما معا أو يسبق أحدهما الآخر وأيّهما، لأن التفاعلات التي نراها على الساحة الدولية لم تصل بعد إلى تفضيل طريقة محددة، فنوعية القضايا الخلافية وميراث كل دولة أو نظام والتداخلات الإقليمية والدولية من العناصر التي تلعب دورا مهما في الحديث عن آلية معينة يمكن تطبيقها.

ما وصلت إليه العلاقات بين مصر وتركيا من تدهور سابقا انطوى على جزء أيديولوجي يحتاج إلى إجراءات متينة لعدم تكراره، ويفرض تبني تصورات تعزز مبدأ الثقة الذي تريده القاهرة، وإن كانت وصلت إلى قناعة بأهمية عودة العلاقات مع أنقرة في الوقت الراهن.

تظل إشكالية التطبيع أم حلُّ الخلافات تراوح مكانها بين البلدين بلا ضجيج يعيد التوتر، لأن ترتيب الأولويات في أحد تجلياته يعني أن الطرفين وصلا إلى مستوى لا تجوز فيه العودة إلى الوراء مرة أخرى أو طرح تساؤلات حول جدوى استئناف العلاقات الدبلوماسية، فالقناعة الظاهرة لدى القيادتين في القاهرة وأنقرة أن العودة حتمية وتبقى الرتوش النهائية التي جرى تلخيصها في عبارة “اختيار التوقيت المناسب”.

العرب