هل تراجعت الولايات المتحدة عن التزاماتها في الشرق الأوسط

هل تراجعت الولايات المتحدة عن التزاماتها في الشرق الأوسط

التبشير بقدرة الصين أو روسيا على خلافة النفوذ الأميركي خاصة في منطقة الخليج أمر مبالغ فيه ولا يستند إلى تحليلات واقعية، فلا يمكن توقع إستراتيجية متماسكة في المحيطين الهندي والهادئ ولا في الشرق الأوسط دون دور أميركي.

لندن – يجري الحديث عن أن الولايات المتحدة تشهد تراجعا أمام صعود واضح للصين. ويتجه الحديث عن هذا المعطى مباشرة إلى منطقة الشرق الأوسط وخاصة في الخليج وسط تحليلات تتنبأ بأن بكين تتهيأ لخلافة الدور الأميركي.

وتكررت هذه التوقعات في تحاليل لثلاثة تطورات خلال الشهر الماضي. أولها استعادة العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وإيران بوساطة صينية، وثانيها انضمام المملكة إلى منظمة شنغهاي للتعاون التي تركز على الأمن، والتي تقودها الصين، وثالثها الإحياء المحتمل للعلاقات الدبلوماسية بين السعودية وسوريا بتسهيل روسي.

ويبقى من السابق لأوانه تحديد أهمية هذه التطورات جيوسياسيا. كما أن هذه التطورات تثير العديد من الأسئلة بقدر ما تقدم إجابات. ولا يزال تأثيرها النهائي غير مؤكد.

في نفس الوقت، لم تغير هذه التطورات الحقائق على الأرض رغم تهميش الولايات المتحدة في هذه التحركات خاصة أنها تشمل أحد أهم شركائها في الخليج، أي السعودية. لكن لا يستطيع المرء تحديد إستراتيجية متماسكة بين المحيطين الهندي والهادئ لا تشمل الدور الأميركي: بحر العرب مع عمان واليمن والصومال والهند وباكستان كدول مطلّة.

يعني هذا أن استمرار التزام الولايات المتحدة بالأمن في الشرق الأوسط أو غرب آسيا يجب أن يكون جزءا لا يتجزأ من أي إستراتيجية بين الهند والمحيط الهادئ، بغض النظر عن كيفية إعادة تشكيله، ومن هي القوى الصاعدة والقوى المتراجعة.

وتبرز أهمية الخليج وبحر العرب حتى في التحالفات المصغرة الجانبية، مثل “مجموعة آي 2 يو 2” التي تجمع الولايات المتحدة والهند والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل وتركز على الاقتصاد والأمن غير التقليدي مثل إنتاج الغذاء.

ولم تنتح التطورات الأخيرة المتعلقة بالصين وروسيا عن لا شيء. فهي تعكس إعادة توازن عالمية للقوة بدلا من حجب واحدة لأخرى. وشملت إعادة التوازن نحو عالم متعدد الأقطاب في البداية الولايات المتحدة والصين. لكن الهند ستظهر بصفتها ثالث أكبر اقتصاد في العالم وتطالب بمقعدها على طاولة الكبار.

وتصمم القوى الوسطى مثل المملكة العربية السعودية على عدم الوقوع في حرب باردة متجددة في بيئة متعددة الأقطاب. لكنها تُجبر على الانحياز إلى أحد أطراف الصراع، وتكتسب قوة ونفوذا متزايدا لأنها تلعب على كل الأطراف وتمتلك أوراقا مؤثرة خاصة النفط والغاز.

ويبدو أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان كان يشير إلى هذا التطور الذي يجعل من بلاده حلقة وسطى في التحالفات قديمها وجديدها، وذلك عندما أخبر مساعديه في أواخر العام الماضي أنه لم يعد مهتما بإرضاء الولايات المتحدة وأكّد أنه يريد مقابلا لأيّ شيء يقدمه لواشنطن.

واعتمادا على نتيجة حرب أوكرانيا، قد تجد دول الخليج أن روسيا أصبحت قوة متوسطة لا قوة عظمى حتى وإن لم تكن هذه هي الصورة التي تريد أن يراها الجميع عليها، خاصة أن البعض يناور بالتحالف معها لتغيير موقف واشنطن أكثر منه إيمانا بأنها بديل حقيقي للشراكة مع الأميركيين.

وأصبحت فرقاطة الأدميرال جورشكوف المسلحة بصاروخ كروز، الذي يفوق سرعة الصوت، أول سفينة حربية روسية ترسو في المملكة العربية السعودية خلال الأيام الماضية في أحدث تصوير لروسيا لنفسها كقوة عالمية. ووصلت السفينة بعد مشاركتها في تدريبات قبالة سواحل جنوب أفريقيا، ورسَت مع الصين وإيران في بحر العرب.

وفي حين كان للسعودية وإيران سبب وجيه لاختيار الصين وسيطا لعلاقاتهما المحسنة، يبقى سبب احتياج المملكة إلى موسكو لاستعادة علاقاتها مع سوريا غير واضح.

وإذا أعادت السعودية وسوريا العلاقات بينهما مع إشراك روسيا، فمن المحتمل أن تكون هذه إيماءة أو مناورة في مرحلة تتعرض خلالها موسكو لعقوبات الولايات المتحدة وأوروبا وبعض حلفائهما الآسيويين وليس قرارا مدفوعا بامتلاكها نفوذا كبيرا تقدمه للسعوديين.

ويعدّ كسب نقاط على الجانب الروسي والصيني أمرا منطقيا تماما بينما تسعى دول الشرق الأوسط إلى التحوط من رهاناتها بعد عقد من تصريحات المسؤولين الأميركيين والإجراءات التي شككت في التزام أميركا بأمن الخليج.

وخلص الخبير الأمني في كلية الدفاع الوطني في الإمارات العربية المتحدة كريستوفر ك. كولي في دراسة أخيرة إلى أن الوجود العسكري الأميركي المتقدم في الشرق الأوسط لا يتراجع ولا يبقى مستقرا. وأكّد في المقابل ارتفاعه خلال العقد الماضي.

واستند إلى بيانات من المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية ليشير إلى أن الجيش الأميركي رفع من وجوده في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين وقطر والكويت وجيبوتي خلال الفترة الممتدة من 2008 إلى 2022.

كما حدد كولي أنه لم يطرأ تغيير كبير في مصادر الأسلحة التي تستوردها دول الشرق الأوسط. ودقق في بيانات الطائرات المقاتلة، وقدّر أن ما يزيد عن 56 في المئة من المقاتلات التابعة للقوات الجوية السعودية والإماراتية والكويتية والعمانية هي طائرات أميركية الصنع، بينما تشكل مقاتلات فرنسا جزءا كبيرا من النسبة المتبقية.

أصبحت فرقاطة الأدميرال جورشكوف المسلحة بصاروخ كروز، الذي يفوق سرعة الصوت، أول سفينة حربية روسية ترسو في المملكة العربية السعودية خلال الأيام الماضية في أحدث تصوير لروسيا لنفسها كقوة عالمية
◙ فرقاطة الأدميرال جورشكوف أصبحت أول سفينة حربية روسية ترسو في المملكة العربية السعودية
وقال كولي إن الطائرات الحربية الروسية والصينية منعدمة في تلك الدول. وأضاف أن الروابط الهيكلية بين واشنطن والرياض قوية وتخلق دوافع اقتصادية وسياسية وأمنية قوية ذات مصالح في حل الخلافات، حيث تزوّد الولايات المتحدة حوالي 75 في المئة من أنظمة الأسلحة السعودية التي تتطلب قطع غيار وإصلاحات وتحديثات.

واختتم كولي دراسته قبل أن تقرر الولايات المتحدة في أواخر مارس نشر طائرات هجومية قديمة من طراز “إيه – 10” في الشرق الأوسط لتعوّض الطائرات القتالية الأكثر تطورا في الشرق الأوسط ضمن جهودها لنقل المزيد من المقاتلات الحديثة إلى المحيط الهادئ وأوروبا.

وليس واضحا بعد تأثير هذا البديل على الحسابات الأمنية الخليجية والصينية. ويُسعِد الصين أن تترك الولايات المتحدة تتحمل المسؤولية الأمنية في الخليج طالما يتمتع عرضها العسكري بالموثوقية والمصداقية. ويفترض العديد من المحللين الصينيين أن الولايات المتحدة ستحافظ على التزامها في المستقبل المنظور.

ويتساءل جيمس دورسي الخبير في قضايا الشرق الأوسط والأدنى: هل يقلل استبدال الطائرات الحربية من مصداقية الالتزام الأميركي تجاه الحلفاء في الخليج؟

ويعتبر دورسي أنه من غير المرجح أن يغير هذا من الحسابات الصينية في الوقت الحالي، مشيرا إلى أن الصين اكتسبت مع التحديث السريع لجيش التحرير الشعبي وقواته البحرية قدرة متزايدة على نشر قوات في الشرق الأوسط لتأمين مصالحها.

لكن السؤال هنا: على تقدر هذه التحديثات الصينية أن تعوض حاجة دول الخليج إلى الوجود العسكري الأميركي كليا؟

◙ العالم بعيد عن المرحلة التي يمكن للجيش الصيني خلالها المشاركة في العمليات القتالية لحماية أحد شركائه الإستراتيجيين

واعتبر كولي أنه رغم تطور “البدائل” الصينية عسكريا واقتصاديا، إلا أن العالم بعيد عن المرحلة التي يمكن للجيش الصيني خلالها “المشاركة مباشرة في العمليات القتالية، مثل الدفاع الصاروخي، لحماية أحد شركائه الإستراتيجيين من هجوم ما”.

وتبقى اعتبارات الترويج للتمدد الصيني سياسية أكثر منها عسكرية. وتخشى بكين التي تجمعها علاقات بمختلف أطراف النزاعات من أن يجبرها موقفها على المغامرة باتخاذ إجراء عسكري ضد أيّ طرف في حالة وجود تهديد خطير، في وقت لا تمتلك فيه خبرات كافية بالحروب في مناطق بعيدة عنها.

وتبدو الصورة مختلفة فيما يتعلق بروسيا، التي سيكافح اقتصادها الأصغر من اقتصاد الولايات المتحدة أو الصين، لتحمل وطأة الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط حتى دون تكلفة حرب أوكرانيا المتزايدة والعقوبات الأميركية والأوروبية.

كما يحدّ حجم البحرية الروسية من قدرة موسكو على إنشاء مظلة أمنية بعيدة عن شواطئها. كما أنها لا تمتلك نوع القوة الجوية التي توفر الحماية في البحار المفتوحة.

ويعني هذا في الوقت الحالي غياب بديل حقيقي وكامل للمظلة الأمنية الأميركية في الخليج.

لكن هذا لا يمنع دول الخليج من تنويع مصادرها العسكرية. ووقّعت الإمارات العربية المتحدة في العام الماضي على سبيل المثال اتفاقيات لشراء أنظمة أسلحة كبيرة من فرنسا وكوريا الجنوبية والصين وإندونيسيا وتركيا وإسرائيل. وكان جميع هؤلاء (باستثناء الصين) حلفاء للولايات المتحدة أو شركاء لها.

في نفس الوقت، لا تتعلق مسألة استدامة المظلة الأميركية بتراجع الولايات المتحدة بقدر كيفية تحديد واشنطن لمصالحها ودورها في العالم وليس بحاجتها المتناقصة للنفط والغاز في الشرق الأوسط.

وقال كولي إن “انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط سيعني أساسا تخلّي واشنطن عن دورها كقوة عظمى وقائدة منهجية. لذلك، فإن السؤال المحوري خلال السنوات العشر إلى العشرين القادمة سيكون عن مدى استفادة الولايات المتحدة من المظلة الأمنية في المنطقة مقارنة بمكاسب الدول الأخرى، وخاصة منها الصين”.

العرب