حرب أوكرانيا صارت أكبر من مجرد غزو روسي للبلد الجار الذي كان ضمن الإمبراطورية القيصرية ثم الاتحاد السوفياتي، أكبر من الأسباب المعلنة في الكرملين حول ما تراها موسكو سياسات وممارسات خطيرة للنظام في كييف، وأكبر من ردود الفعل الدفاعية في الغرب وتدريب الجيش الأوكراني وتسليحه وتمويل مقاومته للغزو.
أبرز المؤشرات ثلاثة، أولاً لجهة ما ظهر من تعدد لاعبين متدخلين بعضهم يعتبر الحرب حربه، وبعضهم الآخر تدفعه مصالحه مع الطرفين إلى الإمساك بالعصا من المنتصف والتبرع بدور في الوساطة وترتيب تسوية سلمية من دون نجاح، وثانياً لجهة التزايد في الأهداف المطلوبة منها مع مرور الوقت وما يدور في ساحات المعارك، وثالثاً كون ما يحدث في أوروبا يأخذ دائماً أبعاداً تتجاوز القارة التي حكمت العالم، بحيث لا حروب سميت عالمية إلا التي دارت فيها.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يريد أن يحقق، فوق أهدافه في أوكرانيا، هدفين على المستوى الدولي، فرض نظام عالمي متعدد الأقطاب يضع نهاية للهيمنة الأميركية، وإلحاق “هزيمة استراتيجية” بالغرب.
الرئيس الأميركي جو بايدن وعدد من القادة الأوروبيين يصرون على “هزيمة روسيا استراتيجياً”، والرئيس الصيني شي جينبينغ يرى فرصة لتمتين التحالف بين التنين الصيني والدب الروسي وإضعاف النسر الأميركي والقيام بمبادرة سلام في حرب أوكرانيا على الطريق إلى نظام عالمي “تهندسه” الصين.
هذه أهداف يصعب تحقيقها بحرب محدودة في الجغرافيا الأوكرانية، وإن كانت بلا حدود جيوسياسية خارجها، فكل نظام عالمي كان حصيلة حرب مباشرة بين الكبار في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وكل هزيمة لأية قوة كبرى تقود إلى مضاعفات غير عادية.
الإمبراطوريات التي خسرت الحرب العالمية الأولى انتهت وجرى تفكيكها وأبرزها الإمبراطورية النمسوية- المجرية والسلطنة العثمانية، ودول “المحور” التي هزمها “الحلفاء” في الحرب العالمية الثانية جرى تقسيمها وتقاسم النفوذ فيها كما جرى في ألمانيا أو التحكم بها كما في اليابان وإيطاليا.
المعادلة صارت واضحة، ليس أخطر من أن تخسر روسيا الحرب سوى أن تربحها، الخسارة أي الهزيمة الاستراتيجية ستنهي، لا فقط بوتين، بل أيضاً الاتحاد الروسي، والربح أي هزيمة الغرب استراتيجياً يعني فرض قواعد جديدة للصراع في العالم والتسليم بأن خرق الخرائط صار ممكناً لمن يستطيع ذلك.
تروي دارا ماسيكوت، وهي من مؤسسة راند ومحللة سابقة في البنتاغون للقدرات العسكرية الروسية، قصة حوار معبر، قبل أسابيع من الغزو قال مدير الاستخبارات المركزية الأميركية وليم بيرنز لسكرتير مجلس الأمن القومي الروسي نيقولاي باتروشيف “نعرف أنكم تخططون لغزو أوكرانيا، وإذا فعلتم، فإن رد الغرب سيكون قوياً”.
جواب المسؤول الأمني الروسي جاء صارماً “الجيش الروسي يستطيع تحقيق ما يريد”، لكن بوتين أنكر أنه سيغزو، ولم يخبر قواته إلا قبل أيام أو ساعات، والنتيجة كما تقول المحللة ماسيكوت في مقالة نشرتها “فورين أفيرز”، هي أن “روسيا خالفت عقيدتها العسكرية التي هي استخدام الطيران والصواريخ على مدى أسابيع لتدمير إمكانات العدو قبل بدء العمل البري”، والسبب هو “تدخل بوتين شخصياً والتخطيط عبر مجموعة صغيرة من المستشارين والأمنيين”.
بالطبع، إن بوتين يكرر القول اليوم إنه يستخدم أقل من قوته في أوكرانيا، لكن أستاذ الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جونز هوبكنز البروفيسور هال براندز، يرى أن “روسيا تفتقر إلى الوسائل العسكرية لتحقيق أهدافها السياسية، وتطلق صواريخ وذخائر بأسرع من قدرة الصناعات الدفاعية الخاضعة لعقوبات شديدة على تجديدها”.
مهما يكن، فالمؤكد هو نهاية الأحادية الأميركية على قمة النظام العالمي، والمشكوك فيه هو ترتيب نظام عالمي متعدد الأقطاب، والمرجح هو العيش في مرحلة تطول أو تقصر من تعدد الأقطاب بلا نظام عالمي، ومن الصعب في هذه المرحلة ترتيب نظام أمني إقليمي في الشرق الأوسط.
اندبندت عربي