الكويت في مأزق ديمقراطية لا يصدقها أحد

الكويت في مأزق ديمقراطية لا يصدقها أحد

تحديد موعد لإجراء انتخابات برلمانية جديدة في الكويت لا يحل مشكلة البلاد مع نفسها. إنه يزيدها تعقيدا. ويعيدها إلى الدوامة، التي كلما قال الناس إنها خرجت منها، عادت إليها من جديد.

لكثرة ما تكررت، ضاع العد، بين حل البرلمان واستقالة الحكومة. شيء ما كان يجب أن يتغير. ليس أقله من موقف الأسرة الحاكمة من نفسها ومن مسؤوليات أفرادها تجاه استقرار البلاد ومستقبلها. وليس دون ذلك، أن تهب نخبة البلاد لوقف حالة الدوران بلا طائل حول لعبة “ديمقراطية”، لا أحد يحملها على محمل الجد، ولا هي تقدم حلا للمشكلات التي تعانيها البلاد، ولا أثبتت في فشلها المتكرر أنها قادرة على إنتاج تغيير.

التنازع بين أفراد الأسرة الحاكمة على المناصب والمصالح كان يجب أن يوضع له حد، صارم ونهائي. ولكن ليس على أساس من تقاسم الحصص، وإنما على أساس نسف الحصص لصالح الكفاءة والإخلاص لما هو أبعد من الامتيازات الخاصة.

الكويت ليست هي الكنز المكنون الذي يتصارع المتصارعون على أبوابه. لم تعد كذلك. كل ما يتوفر لها من ثروات بات محدودا قياسا بما يمكن لحسن الإدارة أن يصنعه. نماذج الجوار تكفي للدلالة على ذلك. أيّ مؤشر من مؤشرات التنمية سوف يُثبت أن الكويت تتأخر عن أقرانها على نحو لا مبرر له. والثروات المتاحة قد تبدو طائلة، إلا أنها لن تبقى كذلك إذا ما دخلت دوامة المنازعات الداخلية، سواء تلك التي تصطرع داخل الأسرة الحاكمة، أو تلك التي تصطرع بينها وبين الجمهور العريض.

وعلى سبيل تبسيط البسيط، فان المليار دولار اليوم، ليست مليارا غدا. المسألة تتعلق بما هو أبعد من مجرد البحث عن فرص استثمارية لأنها مسألة رؤية حول ما إذا كان يمكن للكويت نفسها أن تتحول إلى فرصة استثمارية هي نفسها لنفسها. وذلك بما يعني أن تنشغل بمشاريع للتطوير والاستثمار الاقتصادي الداخلي، بدلا من أن تبقى أسيرة اتجاه استثماري خارجي واحد، بينما يحيطها “طوز” الضياع في الداخل؛ “طوز” التنازع أو “طوز” الشلل أو “طوز” التمنع عن القبول بالتغيير.

التوجه نحو بناء حكومة ترعى النزاهة والشفافية، وتحدد أهدافا عقلانية.. أمر ممكن حتى بعد “إعادة إنتاج” مجلس الزعيق والانتقادات والاستجوابات

ثمة مستوى مرعب من التعثر التنموي في البلاد سببه الرئيسي يعود إلى تلك الدوامة التي لا تنتهي بين حكومة تستقيل وبرلمان يجري حله ليعاد انتخابه، فيعود يضغط على الحكومة لتستقيل، فيجري حله مرة أخرى.

هذه لعبة خطرة. ومصدر الخطورة الرئيسي فيها هو أنها توسع الهوّة بين المؤسسة الرسمية وبين مواطنيها. لاحظ، إن هذه المؤسسة تتنازع مع نفسها ومع الناس في آن معا. انقسامات الأسرة الحاكمة في شق. وانقسامها مع مجلس الأمة في شق آخر، وعجزهما معا عن إبقاء قنوات التعاطي مفتوحة مع المجتمع في شق ثالث.

العديد من الشخصيات الوطنية، المستقلة والتكنوقراط، ظل يكرر الدعوات إلى الإصلاح. ليس بالمعنى الذي يقتصر على إجراء مصالحات وتسويات لأحكام وقضايا حقوقية، وإنما بمعنى توفر الجرأة على إعادة نظر مؤسسية شاملة تعيد ترتيب العلاقة بين الأسرة الحاكمة والحكومة، وبين الحكومة والبرلمان، وبين هذا الأخير والأمة التي يمثلها. وتعيد تحديد الأدوار والوظائف، من ناحية، وتضع هدفا ساميا للفاعلية السياسية، من ناحية أخرى.

هناك من يرى الآن، أن مجلس أمة شاغر وحكومة فاعلة في الكويت أفضل من مجلس أمة زاعق وحكومة معطلة. إذ كان يمكن ببقاء المجلس معطلا، أن يُصار إلى بناء حكومة لا تحوم حول أعمالها شكوك سوء الإدارة أو الاتهامات بالفساد.

السؤال الأبسط من البسيط، هو ما الذي يمنع الكويت عن ذلك؟ وهل عجزت الإمكانيات عن أن تقوم حكومة تتجاوب من الاستجوابات البرلمانية تجاوب الواثق من نفسه، والقادر على الدفاع عن خياراته، بدلا من الهرب إلى الاستقالة؟ وكم مرة يمكن أن يحصل ذلك قبل أن يعي القاصي والداني أنها باتت لعبة، هي بحد ذاتها، فاسدة؟

التوجه نحو بناء حكومة ترعى النزاهة والشفافية، وتحدد أهدافا عقلانية، وتخضعها للتدقيق والمراجعة المسؤولة، وتشرك في اتخاذ القرار بشأنها الخبرات الوطنية، أمر ممكن حتى بعد “إعادة إنتاج” مجلس الزعيق والانتقادات والاستجوابات. إذ يمكن لحكومة كهذه، صارمة المعايير، معلنة الأهداف، ولا تخشى في قول الحق لومة لائم، أن تواجه الانتقادات والاستجوابات بما يكفي من الشجاعة للمضي قدما نحو تنفيذ برنامجها، ولتكشف أن الزعيق لا يغني عن الصواب السياسي شيئا.

لقد كان مما يثير الرعب حقا، أن خاطب رئيس مجلس الأمة مرزوق الغانم رئيس الوزراء نواف الأحمد بلغة غير مسبوقة في الخشونة والتحدي.

قال مطلع أبريل الماضي “سموّ رئيس مجلس الوزراء، أنت لست اختيارنا، بل اختيار سموّ أمير البلاد، وواجبنا الشرعي والدستوري والقانوني احترام هذا الاختيار. ونحن لسنا اختيارك بل أعضاء مجلس الأمة المنتخبون من قبل الشعب الكويتي في انتخابات حرة نزيهة لم يثر عليها حتى لغط مثلما حدث في انتخابات المجلس المبطل… هل أنت متعمد في هذه الأزمة وما يحصل مسؤوليتك أنت من دون غيرك؟ وإذا كنت متعمداً لماذا لم تحضر الجلسات ولماذا كنت تترقب حكم المحكمة الدستورية؟ فتلك مصيبة ولن نقبل. وإن كنت لست متعمداً فالمصيبة أعظم فأنت خطر على مستقبل البلد”.

ولكن عاد نواف الأحمد ليترأس الحكومة. وسيعود المجلس ليترأس الصدام.

هناك من يرى الآن، أن مجلس أمة شاغر وحكومة فاعلة في الكويت أفضل من مجلس أمة زاعق وحكومة معطلة

قد يصعب على الكويت أن تأخذ علما بأن أحدا لا يصدق أن نظامها الديمقراطي ديمقراطي فعلا. ليس وهو يغطس في تلك الدوامة، ولا حتى عندما يخرج منها. ولكنها حتى إذا شاءت أن تحافظ على “الانطباعات” الديمقراطية، فمن الواضح أنها لا تفعل ذلك الآن. من الواضح أكثر أنها في حاجة إلى مقاربات جديدة تصونها من تكرار الانهيارات الحكومية والبرلمانية من خلال العثور على مسار سياسي جديد، بل ربما مسار مؤسسي جديد أيضا.

سوف يعاد انتخاب مجلس الأمة. ومن غير المستبعد أن يبقى “المعارضون” أغلبية فيه.

السؤال الخفي هو: أولئك “المعارضون” معارضون لمن؟ ومعارضون لماذا؟ هل هناك “حزب حاكم” لكي يعارضوه، أم أنهم يعارضون “المؤسسة” الحاكمة نفسها؟ وما شأن هذه المؤسسة لكي تجد نفسها في موقف كهذا؟ ما الذي يمنعها من التجرد عمّا يثير “المعارضة” والاعتراضات؟

ما تزال الكويت في حاجة إلى أن تعطي نفسها فرصة لالتقاط الأنفاس لأجل التنمية وترتيب الوضع الداخلي بدلا من الدخول في دوامة انتخاب مجلس أمة لن يختلف عن الذي سبقه.

ذلك ممكن من دون مجلس أمة. كما أنه ممكن بوجوده أيضا، ولكن من دون حكومة تلعب بالبيضة والحجر. وكلما انكسرت بيضة، استقالت.

المسألة، إنما تتعلق بأن “الحزب الحاكم” لديه مشكلة مع نفسه. وهو الذي يتسبب في ظهور معارضة له. من ناحية لأنه حزب خفي، ويلقي بالمسؤولية على غيره. ومن ناحية أخرى، لأنه حزب محصن يلوم ولا يلام.

السؤال الأهم: لماذا يكون ذلك في الأساس؟

وللإجابة عليه، هناك خياران جديران بالاعتبار، لا ثالث لهما. إما أن تحكم كما يحكم الناجحون في الجوار. وهم بالدرجة الأولى، قادة مشروع تنمية. وإما أن تعيد بناء الديمقراطية بما يجعلها مسؤولية لا تخشى المحاسبة ولا تعطلها.

العرب