في المقال السابق، الذي حمل عنوان «حول أسباب التدخل الروسي في سوريا»، ناقشنا عدة أمور، تناولت موقع روسيا حالياً في الخريطة الدولية، وأهمية استمرار سوريا، ضمن مناطق مصالحها الحيوية. أشرنا إلى أن روسيا بوتين، دعمت بقاء الدولة السورية، وحالت دون انهيارها، من خلال دعمها المستمر للقوات السورية. لكنها حين راقبت تغير موازين القوة على الساحة السورية، لغير صالح الجيش السوري، تدخلت بشكل مباشر، لدعم صموده.
واقع الحال، أن الأسابيع الماضية، شهدت انتقالاً جذرياً في السياسة الروسية، ليس فقط بالتدخل العسكري المباشر، داخل سوريا ولكن أيضاً بمحاولة فرض رؤيتها السياسية للحل، على المستويين الإقليمي والدولي، وقد حمل هذا الأسبوع، إشارات مهمة لتبدل جذري في الموقفين، الأمريكي والفرنسي، لصالح القبول بالرؤية الروسية للحل.
فوزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، أعلن صراحة، أن بلاده لا تشترط تنحي الرئيس السوري، في التسوية السياسية، وأنها لا تمانع من استمراره في سدة الرئاسة، خلال المرحلة الانتقالية. وبالمثل صرح الرئيس الفرنسي، بما يقترب من هذه الصياغة.
لذا، فإن تمدد إرهاب «داعش»، على المستوى الدولي، قد أقنع صنّاع القرار الأممي الكبار، بأن الأهمية الآن، هي للقضاء على «داعش». سادت قناعة لدى معظم الدول أن الحرب على «داعش» لن تكون ممكنة من غير مشاركة الجيش السوري. وهكذا وجد الغرماء الكبار أنفسهم، يقفون في خندق واحد، ويتنازلون لصالح الموقف الروسي.
بالنسبة لنا، لا يمكن أن نختزل الموقف الروسي، بالرغبة في القضاء على الإرهاب فقط، وإن كان ذلك على رأس أجندات قيادة بوتين. فالأمر بالنسبة لهذه القيادة هو أعمق وأبعد بكثير من محاربة «داعش». فبالإضافة إلى ما أشرنا له في السابق، من أهمية سوريا بالنسبة للمصالح الجيوسياسية الروسية، فإن التدخل الروسي، مثل عودة الدب القطبي مجدداً للساحة الدولية، كلاعب رئيسي. ومن جهة أخرى، مثل نهاية لحقبة الأحادية القطبية.
لكن ذلك ليس نهاية المطاف بالنسبة لإدارة بوتين. فقد رصدت اتفاق الأمريكيين مع طهران حول الملف النووي. وطبيعي أن يكون لذلك امتدادات سياسية واقتصادية. فمنذ الآن أمست طهران محجاً للشركات الأوروبية والأمريكية، التي تهافتت بقوة، للحصول على حصتها في عملية بناء إيران، ما بعد رفع العقوبات، على كل الصعد.
وبالنسبة لروسيا، فإن ذلك يعني عودة هيمنة أمريكا على القوس الممتد من باكستان وأفغانستان، والذي لا يستبعد الروس، إذ ستلتحق به طهران مستقبلاً. وسيضم العراق، الحليف لطهران وواشنطن، وإذا ما فرضت إيران، بحكم الأمر الواقع سيطرتها على سوريا، فإن هذا القوس سيمتد من أفغانستان إلى حوض البحر الأبيض المتوسط وذلك ما لن تقبل به روسيا.
إن تدخل روسيا في سوريا، يقطع اتصال هذا القوس بحوض البحر الأبيض من جهة، ويتيح لها من جهة أخرى، فرصاً جديدة للتدخل في العراق، تحت شعار مكافحة «داعش» والمنظمات الإرهابية الأخرى الذي كان لعدة عقود، ومنذ عام 1958، إثر الثورة التي نقلت العراق إلى النظام الجمهوري، ضمن المناطق الحيوية للاتحاد السوفييتي السابق. وهو ما أعلنت روسيا رسمياً سعيها لتحقيقه.
وربما يجادل البعض، في أن علاقة موسكو بطهران الآن هي علاقة تحالف. وذلك أمر لا جدال فيه، لكن هذا القول يغفل جملة من الحقائق، أهمها أن موسكو تميز بين إيران كحليف لها، في حدود سيادتها على أراضيها، وإيران كقوة إقليمية، تسعى للتوسع على حساب، ما تعتبره مناطق نفوذها التاريخي. ومن جهة أخرى، فإنها لا تملك ضمانة من التحول في سياسات إيران، لصالح توسيع علاقاتها بغرماء روسيا في الغرب، خاصة مع انتهاء أزمة الملف النووي الإيراني، ورفع العقوبات الاقتصادية الدولية عن طهران.
هناك توقعات من قبل كثير من الخبراء الاقتصاديين، بأن الأيام القادمة ستشهد انتعاشاً، لأسواق البازار في إيران، وانتقالاً لشرائح كبيرة، من المحسوبين على قم لهذه الأسواق. وسوف يؤدي ذلك من دون شك، لتوسع دائرة التيار الإصلاحي في طهران، وتراجع قوة المرشد الأعلى، في صنع القرارات المتعلقة بمستقبل إيران.
ولعل الوعي بهذه الحقائق، هو الذي يفسر موقف قيادة بوتين، من الأزمة اليمنية، بخلاف توقعات كثير من المحللين. فقد أعطت روسيا بامتناعها عن اتخاذ النقض في مجلس الأمن الدولي، بحق القرار الأممي الذي طالب بنزع أسلحة الحوثيين ضوءاً أخضر لتأييد التحالف العربي، ضدهم. ومن الصعوبة فهم الموقف الروسي، إلا حين نضعه في إطار خشية موسكو، من التوسع الإيراني في المنطقة.
وهناك ملاحظة أخرى، هي أنه رغم التحالف المعلن بين موسكو وطهران في الموقف من الأزمة السورية، لكن موسكو، على نقيض الموقف الإيراني، لا ترغب في تهميش المعارضة السورية، المعبر عنها بالمعتدلة. في حين ترى طهران، أن غياب المصالحة الوطنية، سيتيح لها إبقاء سوريا ضمن نفوذها. أما موسكو فتعمل على توسيع دائرة تحالفاتها مع القيادة السورية والمعارضة، على السواء. وترى في الانتقال السياسي في سوريا، نحو نظام ديمقراطي، فسحة أكبر لها لمحاصرة طهران.
ومن الواضح، أن روسيا جادة في التعاون مع الائتلاف السوري، ومنحه دوراً كبيراً في صناعة مستقبل سوريا. لكنها من جهة أخرى، تعمل على إبقاء الرئيس الأسد في واجهة الحكم. إن ذلك سيمنحها دور الوسيط والحكم، حتى فيما بعد تحقيق المصالحة. فروسيا ما بعد المصالحة، وفقاً لتصورات بوتين ستحظى بثقة الجميع.
بل إن روسيا تسعى بجد، إلى أن تكون جسورها مفتوحة وقوية مع الجيش الحر، الذي ستعمل على إدماجه مستقبلاً بالجيش السوري، بما ينسجم مع الأهداف التي أشرنا لها. وقد قطعت الدبلوماسية الروسية شوطاً كبيراً، في هذا السياق، ينتظر أن تجري ترجمته إلى خطوات في الأيام القادمة.
د.يوسف مكي
صحيفة الخليج