ما بعد الدوحة: أصداء التشدد الأميركي ضد النفوذ الإيراني

ما بعد الدوحة: أصداء التشدد الأميركي ضد النفوذ الإيراني

بقدر ما أظهر اجتماع المجموعة الخماسية في الدوحة الإثنين أنّ الملفّ اللبناني ليس غائباً عن الأجندة الإقليمية والدولية، فهو أكّد أيضاً أنّ حلّ الأزمة اللبنانية ما يزال بعيداً، بل إنّ لبنان سيتحوّل في الأسابيع والأشهر المقبلة إلى ساحة كباش دولي – إقليمي ولو ضمن سقوف معيّنة.

يدلّ بوضوح البيان الصادر عن الاجتماع، كما التسريبات المنشورة من مداولاته، على تشدّد أميركي وسعودي بشأن الملفّ الرئاسي اللبناني. هذا ما يعكسه تلويح البيان باتّخاذ إجراءات ضدّ أولئك الذين يعرقلون إحراز تقدّم في موضوع انتخاب رئيس جديد للبلاد، ومطالبته “الحكومة اللبنانية بتنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي والقرارات والاتفاقات الأخرى ذات الصلة”، وهو ما يحيل تحديداً إلى القرار 1559 الذي يعارضه الحزب بشدّة. وشدّد البيان على الإصلاح القضائي وتطبيق سيادة القانون، لا سيّما في ما يتعلّق بانفجار مرفأ بيروت، وهو ما تطرّق إليه بيان الخارجية الأميركية بعد اللقاء.

بقدر ما أظهر اجتماع المجموعة الخماسية في الدوحة الإثنين أنّ الملفّ اللبناني ليس غائباً عن الأجندة الإقليمية والدولية، فهو أكّد أيضاً أنّ حلّ الأزمة اللبنانية ما يزال بعيداً

توجُّه تصعيديّ

هذه كلّها نقاط تستثير الحزب، وتذكّر في بعض مندرجاتها ببيان نيويورك الذي صدر عن وزراء خارجية كلّ من الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية وفرنسا في 22 أيلول 2022، والذي تعامل معه الحزب وقتذاك بوصفه خريطة طريق أميركية – سعودية للتعامل مع الملفّ اللبناني بعد انتهاء ولاية حليفه الرئيس ميشال عون، لكنّ الحركة الفرنسية أتت مطمئنة للحزب بعد ذلك.

الحزب لم يقرأ بيان الدوحة بارتياح، بل على العكس تماماً فهو تلمّس منه توجّهاً تصعيديّاً ضدّه، وبالأخصّ من جانب واشنطن. والأكيد أنّ الحزب لم يكتفِ بقراءة البنود الصريحة الواردة في البيان، بل إنّه قرأ بين سطوره، ولا سيّما أنّ البيان تضمّن في طيّاته إضعافاً للحراك الفرنسي وربّما طيّاً له مقابل تقدّم للحراك القطريّ. وهو ما أشار إليه ممثّل واشنطن في الاجتماع بقوله، وفق التسريبات، إنّ بلاده تدعم الحراكين الفرنسي والقطري حيال لبنان على حدّ سواء. كذلك فإنّ ذكر البيان أنّ دول المجموعة تتطلّع إلى استمرار التنسيق بما يصبّ في مصلحة الشعب اللبناني دليل على أنّ فرنسا لم تعدّ مخوّلة التحرّك وحدها على الساحة اللبنانية.

رفع غطاء

ليس رفع الغطاء الأميركي الجزئي أو الكلّي عن المبادرة الفرنسية أمراً تفصيلياً بالنسبة إلى الحزب الذي أبدى ارتياحاً للحراك الفرنسي في لبنان منذ زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون للبنان في أعقاب انفجار مرفأ بيروت صيف 2020. وبالفعل فقد كانت باريس طوال الفترة الماضية أقرب إلى الحزب من أيّ طرف لبناني آخر. وهي وإن لم تتبنَّ رسمياً مرشّحه سليمان فرنجية إلّا أنّها حاولت تعزيز حظوظه من خلال رسم إطار للحلّ لا يستبعده بل يساعد على انتخابه مقابل اختيار رئيس للحكومة يرضي خصوم الحزب في الداخل والخارج. لكنّ مسعاها هذا فشلَ وأدّى في النهاية إلى تراجع التغطية العربية والأميركية لحراكها في لبنان.

ربّ قائل إنّ تولّي قطر دوراً محورياً في لبنان بالمرحلة المقبلة لا يزعج الحزب باعتبار أنّ علاقة الدوحة مع طهران جيّدة وأنّ تاريخ العلاقات بين قطر والحزب في لبنان يتضمّن “محطّات إيجابية”. لكنّ الحزب ينظر في المقابل إلى الدور القطري في لبنان الآن بشيء من الحذر لأنّه يحظى بغطاء أميركي واضح، وهذا كافٍ ليتعامل معه الحزب بشيء من التحوّط والريبة، خصوصاً أنّ الحزب لم ينسَ “تشويش” الدوحة على محاولة باريس التسويق لمرشّحه ضمن إطار المقايضة بين رئاستَي الجمهورية والحكومة، وهو “تشويش” حصل، بالنسبة إلى الحزب، بتنسيق مع الأميركيين.

ريبة الحزب

اعتبر الحزب أنّ البند في بيان الدوحة الذي يحدّد مواصفات الرئيس المقبل هو ضدّ مرشّحه فرنجية، خصوصاً أنّه يدعو الرئيس المقبل من إلى أن يشكّل ائتلافاً واسعاً وشاملاً لتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الأساسية، ولا سيّما تلك التي يوصي بها صندوق النقد الدولي. فإلى جانب رفض الحزب لتعاون لبنان من دون شروط مع صندوق النقد، فإنّ إشارة البيان إلى ائتلاف شامل يشكّله الرئيس الجديد تشكّك في مرشّحه فرنجية الذي لا يمكن أن يحظى انتخابه بإجماع داخلي على غرار ما حظي به انتخاب الرئيس ميشال سليمان في عام 2008 في أعقاب مؤتمر الدوحة الشهير.

هذا البند يأخذ معنى سياسياً إضافياً إذا ما قيس على تسريبات الموقف القطري من الملفّ الرئاسي التي تشير إلى دعم الدوحة لوصول قائد الجيش جوزف عون إلى سدّة الرئاسة. وهو الخيار الذي يبدو أنّه يحظى بقبول، أو عدم ممانعة، أطراف أخرى ضمن المجموعة الخماسيّة. وفي مطلق الأحوال فإنّ قائد الجيش، بغضّ النظر عن شخصه، هو في “مرحلة ما بعد الطائف” الأقدر على تحقيق إجماع حول انتخابه رئيساً للجمهورية. والآن فإنّ تراجع الحزب عن دعم فرنجية وقبوله التصويت لقائد الجيش كافيان لانتخابه بإجماع أو شبه إجماع داخل البرلمان اللبناني، بالنظر إلى أنّه لم تظهر ممانعة داخلية علنيّة لانتخاب العماد عون إلّا من قبل جبران باسيل.

لا يمكن توقّع أن يعطي الحزب إشارات إلى قبوله بمرشّح غير سليمان فرنجية، سواء كان قائد الجيش أو غيره، بل إنّه الآن سيأخذ مسافة أبعد من قائد الجيش

… وتمسّكه بفرنجيّة

لكنّ الأكيد أنّ الحزب راهناً ليس في وارد التراجع عن ترشيح حليفه سليمان فرنجية، بل على العكس تماماً فهو سيزيد من التمسّك به وبوتيرة أقوى من السابق، وذلك ردّاً على التوجّه الجديد للمجموعة الخماسية حيال الحزب، الذي دشنّه بيان الدوحة.

لكن لا يمكن قراءة هذا التوجّه من زاوية لبنانية بحتة، إذ إنّ الخطوط العريضة للبيان تنسجم مع التوجّه الأميركي للتشدّد حيال النفوذ الإقليمي لإيران في المرحلة المقبلة، الذي يمكن رصده من خلال التعزيزات العسكرية للقوات الأميركية في سوريا، واستعداد واشنطن لإرسال مدمّرة إلى جانب طائرات مقاتلة من طرازَي “إف – 35″ و”إف – 16” إلى الشرق الأوسط لردع إيران عن مصادرة سفن في الخليج. ويمكن وضع استعداد الرئيس جو بايدن لاستقبال بنيامين نتانياهو بعد أشهر من رفضه ذلك في الإطار عينه. أضف إلى ذلك أنّ هناك تضارباً في المعلومات حول توصّل واشنطن وطهران إلى “تفاهم نووي” بوساطة عمانية. وأيّاً يكن من أمر فثمّة مؤشّرات إلى نيّة واشنطن التضييق ما أمكنها على النفوذ الإيراني في المنطقة. وهذا أمر يعني لبنان مباشرة بالنظر إلى نفوذ الحزب حليف إيران فيه. ولذلك لا يمكن عزل المضمون المتشدّد لبيان الدوحة عن التشدّد الأميركي حيال نفوذ إيران في المنطقة.

إيران في وضع هجوميّ

إيران ومعها الحزب هما، في المقابل، في وضع هجوميّ. يمكن الاستدلال على ذلك من وتيرة الأحداث في الضفة الغربية حيث تتحرّك الفصائل الفلسطينية المدعومة من طهران بقوّة أكبر، ومن استعداد الميليشيات المدعومة من إيران لشنّ هجمات على مواقع الأميركيين في سوريا. وعلى الحدود الجنوبية للبنان فإنّ حركة الحزب في الأسابيع الماضية لا تخرج إطلاقاً من دائرة التصعيد الإيراني هذا، وإن كان تصعيداً مضبوطاً حتّى الآن. وهذا أمر له تأثير أيضاً على الوضع اللبناني على المدى البعيد، بمعنى أنّ عدم انفلات الصراع بين واشنطن وطهران في عموم المنطقة يُبقي الأفق مفتوحاً أمام تسوية إيرانية أميركية بشأن لبنان، لكنّ الأكيد أنّ وقتها لم يحِن بعد، بل هي بعيدة.

في وضع كهذا لا يمكن توقّع أن يعطي الحزب إشارات إلى قبوله بمرشّح غير سليمان فرنجية، سواء كان قائد الجيش أو غيره، بل إنّه الآن سيأخذ مسافة أبعد من قائد الجيش ولن يبدي تجاهه أيّ إشارة أو حركة إيجابية كي لا يُفهم موقفه على أنّه تراجعٌ على وقع بيان الدوحة. وربّما سيبذل الحزب جهوداً إضافية مع حليفه باسيل لإقناعه بالسير بترشيح فرنجية، باعتبار أنّ هذا الترشيح يأخذ معنى استراتيجياً في ظلّ التشدّد الأميركي حيال إيران. مع العلم أنّ رفض باسيل لقائد الجيش متأتٍّ من خشية لديه من قدرته على استقطاب قيادات عونيّة متململة، وهو ما لا قدرة لفرنجية على فعله. وللتذكير فإنّ أركان الحلف الثلاثي، أي ريمون إدّه وبيار الجميّل وكميل شمعون، اتفقوا على ترشيح سليمان فرنجية عام 1970 لأنّه لا يشكّل خطراً على نفوذهم في جبل لبنان. وهذه نقطة يجب أخذها في الحسبان عند قراءة حسابات باسيل الرئاسية بين عون وفرنجية، وهي نقطة يمكن للحزب اللعب عليها.

إقرأ أيضاً: سُّنّة لبنان والمنطقة: نهاية زمن الانكفاء…

في المحصّلة فإنّ إيران وحلفاءها يعتبرون أنّ وضعهم في المنطقة الآن أفضل ممّا كان عليه قبل شهر، وأنّه سيكون بعد شهر أفضل ممّا هو عليه الآن. لذلك لا يمكن توقّع أيّ ليونة من قبل إيران والحزب في الملفّ الرئاسي على المدى القريب ما دام المناخ الإقليمي على حاله، وإلّا فإنّ موقفهما سيُعتبر تراجعاً أمام الاندفاعة الأميركية لمواجهة نفوذ طهران في المنطقة، خصوصاً أنّ الحزب غير مضطرّ إلى التراجع عن ترشيح فرنجية حتى الآن لأنّه غير مضطرّ إلى انتخاب رئيس جديد حتى الآن.

فهل تضطرّه التطوّرات اللاحقة إلى ذلك؟

وما هو الثمن المقابل لتراجعه عن تأييد فرنجية في حال حصل من ضمن صفقة إيرانية مربحة مع الأميركيين، في لبنان أو أيّ مكان آخر من المنطقة؟

أساس ميديا