بغداد- قالت مصادر وثيقة الصلة بالتعاملات المصرفية الجارية في العراق إن قرار المصرف المركزي العراقي بحظر التعامل مع 14 مصرفا محليا، بموجب توجيه من الخزانة الأميركية، جاء متأخرا للغاية بعد أن أدت عمليات التهريب إلى فقدان المليارات. كما أن هناك مصارف أهلية و”إسلامية” أخرى ما تزال تؤدي الدور نفسه، ما يشير إلى أن النظام المصرفي الجديد في العراق ما يزال عاجزا عن مواجهة شبكات تهريب الأموال.
وكانت وزارة الخزانة الأميركية منعت 14 مصرفاً عراقياً من إجراء معاملات بالدولار لتحويله إلى إيران ودول أخرى خاضعة للعقوبات في الشرق الأوسط، الأمر الذي دفع المصرف المركزي العراقي، متأخرا حسب التوقعات، إلى حظر التعامل مع هذه المصارف.
وتحمل معظم المصارف صفة “الإسلامي”، ما يوفر إيحاءات مألوفة في ثقافة “التقية” السائدة في العراق، بأن الصفة تنطوي على معان مضادة، على الأغلب.
◙ التقرير حذر من انهيار الثقة بالقطاع المصرفي العراقي إذا ما استمرت عمليات تهريب الدولار من دون السيطرة عليها
ويوجد في العراق 27 مصرفا “إسلاميا” فضلا عن 25 مصرفا أهليا آخر تحت عناوين استثمارية شتى، فضلا عن العديد من فروع المصارف الأجنبية ومنها بالدرجة الأولى فروع تابعة لإيران، بينما كان الجهاز المصرفي في العراق، قبل الغزو الأميركي، يضم خمسة مصارف فقط هي البنك المركزي العراقي، ومصرف الرافدين، والمصرف الزراعي، والمصرف الصناعي، والمصرف العقاري. وهي جميعا مصارف حكومية تؤدي وظائف متخصصة كل في قطاعه الخاص.
وقال تقرير صدر عن “المركز العالمي للدراسات التنموية” في لندن إن ثلثي مبيعات البنك المركزي العراقي في ما يعرف بـ”نافذة بيع العملة” التي تتراوح عند مستويات 250 مليون دولار يومياً لم تستفد منها السوق العراقية على مدى العقدين الماضيين، ممّا أدى إلى خسارة البلاد مبالغ مالية تقدر بالمليارات.
وأشار التقرير إلى أن النظام المصرفي العراقي، وبدلاً من أن يكون مسهماً في تطوير الاقتصاد العراقي أصبح عائقاً كبيراً أمام النمو أو جذب الاستثمارات، فضلاً عن أنه أصبح مخترقا من شبكات تهريب وغسيل الأموال، فهناك عدد كبير من المصارف التي تعود لشخصيات مقربة من سياسيين وأحزاب وميليشيات مسلحة تسهم بشكل كبير في تهريب الدولار وتمويل عمليات التجارة الخارجية مع دول الجوار مقابل الحصول على عمولات ودعم سياسي.
وأعرب التقرير عن الأمل بأن تؤدي عمليات مكافحة تهريب الدولار إلى عزل وحظر المزيد من المصارف العراقية لأن بعضاً منها يسهم في خرق العقوبات الدولية، مشيرا إلى أن قرارات الخزانة الأميركية الأخيرة ما هي إلا بداية لخطوات أشد وأعمق وأكثر إيلاماً.
ولكن التقرير حذر من انهيار الثقة بالقطاع المصرفي في العراق إذا ما استمرت عمليات تهريب الدولار من دون السيطرة عليها، قائلا إن محاولات البنك المركزي العراقي لمنع تهريب الدولار باءت بالفشل، إذ يستمر سعر الدينار بالتراجع أمام الدولار، مما يفاقم من معاناة العراقيين ويرفع أسعار السلع.
ويشير هذا الواقع إلى أن حظر التعامل مع المصارف الـ14 ليس سوى إجراء متأخر، كما أنه لا يرقى إلى معالجة المشكلة طالما بقيت نافذة المصرف المركزي توفر مئات الملايين من الدولارات يوميا، في بيئة تخلو من الرقابة المنظمة، وتهيمن عليها الأحزاب والميليشيات.
ولأجل طمأنة الأطراف التي تقف وراء هذه المصارف، قال البنك المركزي العراقي في بيان إن “المصارف المحرومة من التعامل بالدولار الأميركي تتمتّع بكامل الحرية في التعامل بالدينار العراقي بمختلف الخدمات ضمن النظام المصرفي العراقي، فضلاً عن حقّها في التعامل الدولي بعملات غير الدولار الأميركي”.
وكان الخبير المالي صادق الركابي قال إن العقوبات اتخذت على خلفية “فواتير غير مبررة”، وليس فيها إثبات لتحديد الوجهات التي تم تحويل الدولار إليها من هذه المصارف، أو إثبات سلع مقابلها. وأضاف أن وزارة الخزانة الأميركية كانت تنتظر منذ أشهر الحصول على دليل وإثبات من المؤسسة المالية العراقية على تلك الفواتير، لكنها لم تحصل على شيء.
وتجري معظم عمليات التهريب بناء على وثائق استيراد لسلع تدخل البلاد فعلياً من أجل بيعها بالدينار، لكن عدداً كبيراً من عمليات الاستيراد وهمية. كما أن وسائل التهريب الأخرى تتضمن شراء سلع بأسعار مضاعفة، أو سلع رديئة، وكل الغاية منها أن تتحول فواتيرها إلى دولارات، قبل أن يتم تهريبها إلى الخارج.
ووفقاً للخبير منار العبيدي فإنه خلال عام 2020، على سبيل المثال، حوّل العراق نحو 40 مليار دولار لغرض استيراد بضائع مختلفة، لكن السوق تسلم بضائع بقيمة 15 مليار دولار، ما يعني أن المبلغ المتبقي تم تهريبه إلى جهات خارجية.
وقال المسؤول السابق في البنك المركزي محمود داغر في تصريح متلفز “حين يقول البنك إنه باع 250 مليون دولار، فإن الزبائن قد لا يتسلمون منها بالفعل إلا 150 مليوناً فقط”. ويقول مراقبون إن مصادر التدبير والتغطية على عمليات التهريب متعددة، وهي تشمل مسؤولين حكوميين كبارا، وقادة أحزاب وأعضاء في البرلمان، وليست المصارف “الإسلامية” والأهلية إلا الطرف الوسيط الأخير في العملية، ما يجعل حظر بعضها لا يعني شيئا على أرض الواقع.
العرب