يتصاعد الخلاف الفكري يومًا بعد يوم بين تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وبين تنظيم “القاعدة” الأم، صاحب النفوذ التقليدي في المنطقة، خاصةً بعد الصعود الكبير لـ”داعش”، وتمدده في المنطقة على حساب “القاعدة”، وذلك عقب الإنجازات غير المسبوقة التي حققها التنظيم، وعلى رأسها إعلان “الخلافة الإسلامية” وتنصيب “خليفة للمسلمين”، حيث حقق التنظيم بتلك الخطوات ما عجزت عنه كل التيارات الجهادية في العالم، بما فيها تنظيم “القاعدة”، وهذا ما أدى إلى إشعال حرب فكرية بين التنظيمين، خاصةً أن كل تنظيم منهما يسعى إلى قيادة الجهاد العالمي.
أولا- أسباب الصراع الفكري بين “داعش” و”القاعدة”:
يحاول تنظيم “القاعدة” جاهدًا استعادة نفوذه في المنطقة، والحفاظ على ما تبقى من التنظيمات التابعة له من الالتحاق بـ”داعش”، بعد أن أحس بالخطر الشديد على تواجده ومستقبله في المنطقة، مما أدى إلى إشعال حرب فكرية بين الطرفين، وذلك لعددٍ من الأسباب، من أهمها:
– نجاح تنظيم “داعش” في الحصول على تأييد العديد من التنظيمات الجهادية في المنطقة، منها عدة تنظيمات موالية للقاعدة، مما جعله التنظيم الأكثر انتشارًا في الفترة الأخيرة.
– محاولة تنظيم “الدولة الإسلامية” توسيع نفوذه قدر المستطاع في المنطقة، على حساب تنظيم “القاعدة”، والتي يراها منطقة نفوذ خاصة به، ومنطقة تمدد حيوي بالنسبة له، وموردًا بشريًّا هامًّا.
وهذا ما جعل التنظيمين يدخلان في “مواجهة فكرية”، لأن كل طرف يعلم أن “سلاح الفكر” هو السلاح الأقوى تأثيرًا، والأكثر جاذبية في أوساط التيارات الإسلامية، وأن المنتصر في المعركة الفكرية بين الطرفين سيحصل على كل المكاسب، وسيكون صاحب النفوذ الأقوى، وسيتربع على عرش الجهاد العالمي بدون منازع، وسيكون “المظلة الجهادية” التي ستجتمع تحتها كل التنظيمات الجهادية في العالم.
ثانيًا- أهم نقاط الخلاف الفكري بين “داعش” و”القاعدة”:
تتمحور الخلافات الفكرية بين “داعش” و”القاعدة” حول عددٍ من النقاط التي أدت إلى تلك الحالة من التباين الفكري بين الطرفين، والذي أدى إلى “الصراع الفكري” بين التنظيمين، ومن أهم تلك النقاط:
1- مفهوم “العذر بالجهل”: ويقصد به “حكم من يأتي بفعل مخالف للعقيدة وهو لا يدري حرمة هذا الفعل”، حيث يُعد ذلك المفهوم واحدًا من أهم القضايا المحورية التي كانت سببًا في حدوث حالة من الانقسامات بين التنظيمات الجهادية في المنطقة؛ حيث تتمحور في الفكر الجهادي حول رؤية كل تنظيم جهادي لمن يخالفه في معتقداته وأفكاره التي يرى أنها تمثل الحق المطلق، هل هم “معذورون بالجهل”، وبالتالي يكونون مسلمين، أم أنهم “لا يُعذرون بالجهل”، وبالتالي يصبحون كافرين مرتدين. فالتنظيمات التي لديها قدر من “العذر بالجهل” مثل تنظيم “القاعدة” ترى أنهم مسلمون ولكنهم فاسقون، أما التنظيمات التي لا “تعذر بالجهل” مثل تنظيم “داعش”، فترى أنهم كافرون مرتدون، وهذا ما أدى إلى خلافات فكرية عميقة بين التنظيمين.
2- مستوى التكفير: فكل التنظيمات الجهادية قاطبة لديها قدر من الفكر التكفيري، مقارنة بغيرها من التيارات الإسلامية الأخرى، لكن تنظيم “داعش” تميز عن تنظيم “القاعدة” بارتفاع معدل الفكر التكفيري إلى أعلى درجاته، حتى أصبح أقرب إلى “الفكر التكفيري” منه إلى “الفكر الجهادي” التقليدي، وقد ظهر ذلك جليًّا في إسراف تنظيم “داعش” في القتل تجاه مخالفيه؛ حيث يرى أن كل من يخالفه ولا يعطيه “البيعة” يعد كافرًا، وبالتالي يُستباح دمه وعرضه وماله، وهذا ما جعل فكر “داعش” محل انتقاد من منظري الفكر الجهادي، من أمثال “أبو محمد المقدسي” و”أبو قتادة الفلسطيني” بالإضافة إلى “أيمن الظواهري” زعيم القاعدة.
3- قرشية الخليفة: تنظيم “داعش” يرى أن شرط “القرشية” في “خليفة المسلمين” -أي أن يكون من نسل قبيلة قريش- هو شرط صحة وليس شرط كمال، وبالتالي لا تصح الخلافة بدون هذا الشرط، بينما ترى “القاعدة” أنه شرط كمال وليس شرط صحة، وهذا ما جعل القاعدة في فترة من الفترات تبايع الملا “محمد عمر” زعيم طالبان على “الخلافة”، برغم أنه لم يكن “قرشيًّا” ولا حتى عربيًّا، وهذا ما جعل “داعش” ترى أولوية تولّي “البغدادي” للخلافة عن “أيمن الظواهري” الذي لا يتمتع بصفة القرشية، لذا دائمًا ما تحرص “داعش” في بياناتها المختلفة على التأكيد على لفظ “القرشي” عند ذكر اسم “الخليفة البغدادي”.
4- “حق البيعة”: حيث ترى القاعدة أن من حقها الحصول على “البيعة” من قبل كل التنظيمات الجهادية بما فيها “داعش”، لأنها التنظيم الأم لكل التنظيمات، وبالتالي هي أولى أن تأخذ البيعة للخلافة، في حين يرى تنظيم “الدولة الإسلامية” أنه ليس فرعًا تابعًا للقاعدة، وأنه قام بما لم يستطع أحد القيام به، وهو إعلان “الخلافة الإسلامية”، لذا يجب على قيادة القاعدة وأفرادها مبايعة خليفة المسلمين “البغدادي”، لأنه قرشي، وعُقدت له البيعة من المجاهدين الذين يحملون لواء الجهاد في العراق والشام وغيرها من البلدان الإسلامية.
5- الموقف من الطوائف والأديان الأخرى: فـ”داعش” تتشدد بقوة تجاه الطوائف والأديان الأخرى (مثل: الشيعة، والعلويين، واليزيدين، والمسيحيين) حيث ترى أن هؤلاء جميعًا ومن على شاكلتهم كفار أصليون يجب قتال رجالهم، وسبي نسائهم، واغتنام أموالهم، في حين ترى “القاعدة” أنه يجب التفريق بين الطوائف الإسلامية والأديان الأخرى، فالطوائف مثل الشيعة والعلويين يكفرون علماءهم وقادتهم، أما عوامهم فلا يحكمون بكفرهم الإ بعد إقامة الحجة عليهم، أما أصحاب الأديان الأخرى مثل المسيحين واليزيدين فترى “القاعدة” أنهم كفار أصليون، ولكن لا يقاتَلون إلا إذا كانوا محارِبين، وما سوى ذلك فيدفعون الجزية.
ثالثًا- تداعيات الصراع الفكري:
بشكل عام، فإن مجمل الخلاف الفكري بين التنظيمين، سيمثل عائقًا قويًّا ومانعًا كبيرًا في طريق الوحدة أو الاندماج بين التنظيمين في المستقبل، برغم أن التحالف الدولي ضد “داعش” قد خلق حالة من التقارب بين “القاعدة” وشقيقتها الصغرى “جبهة النصرة”، وبين تنظيم “داعش”، إلا أنه تقارب مؤقت، لأنه مرتبط بالخطر القائم على الطرفين، وهو “التحالف الدولي” ضد “داعش”، خاصةً أن كل التنظيمات الجهادية في المنطقة تدرك جيدًا أنها ستكون الهدف التالي بعد “داعش”، وأن المسالة بالنسبة للتحالف مسألة ترتيب أولويات. لذلك ما أن يزول خطر “التحالف الدولى” إلا وسيعود الصراع من جديد بين الطرفين على أشده، مع إمكانية تحوله إلى صراع مسلح، خاصةً أن كلا من التنظيمين سيحاول جاهدًا أن يعوض خسارته، فـ”القاعدة” ستُحاول أن تعوض ما خسرته من نفوذ لصالح “داعش”، وفي المقابل سيحاول تنظيم “داعش” أن يعوض ما خسره من نفوذ وقدرات بسبب الحرب الدولية ضده.
وفي النهاية، يمكن القول إن “الحرب الفكرية” بين “داعش” و”القاعدة” ستبقى ما بقي التنظيمان يتنافسان على الساحة، ولم تحدث بينهما حالة من التوافق، ولكن يكمن الخطر الأكبر في هذا “الصراع الفكري” في احتمالية ظهور تنظيمات جهادية جديدة في غاية التشدد والتطرف بسب “الصراع الفكري” الدائر حاليًّا، والذي سيؤدي إلى حالة من “الاضطراب الفكري” بين الجهاديين، فمن الموروثات الفكرية عند التيار الجهادي أنه يتم الهروب من “الخلافات الفكرية” باللجوء إلى “التشدد الفكري”، وهو ما يعني أن المرحلة القادمة يمكن أن تشهد ظهور تنظيمات جهادية في غاية العنف والتطرف، يمكن أن يتضاءل بجوارها التطرف “الداعشي” و”القاعدي”.
المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية
http://goo.gl/EEBY36