ثلاثية العطش تحاصر السوريين

ثلاثية العطش تحاصر السوريين

إلى جانب الاحتباس الحراري الذي يعتبر السبب الأبرز لأزمة المياه في سوريا، تلعب السياسة دورا لا يقل أهمية أيضا. وتتخذ الأطراف المتصارعة بشأن سوريا المياه ورقة ابتزاز لتحقيق مكاسب.

دمشق – اندلعت الحرب الأهلية في سوريا منذ أكثر من عقد. وعانى السكان خلال هذه الفترة من العنف وقمع الأطراف المتحاربة، وواجهوا الصعوبات الاقتصادية والأمراض بسبب التدهور التدريجي للاقتصاد والخدمات الأساسية.

ولا يزال العنف المستمر يودي بحياة المدنيين بانتظام في أجزاء من سوريا، وخاصة الشمال الغربي الذي يسيطر عليه الأتراك والمتمردون.

وكان الوضع الأمني مستقرا نسبيا لعدة سنوات في الشمال الشرقي الذي يسيطر عليه الأكراد، لكن دير الزور تعرضت مؤخرا لموجة عنف مع انتفاضة القبائل العربية ضد قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد.

ولا يزال الدمار الواسع الناتج عن سنوات من الصراع بارزا في أماكن أخرى من المنطقة. وتبدو الأمور أفضل قليلا في بقية أنحاء البلاد، التي تسيطر عليها قوات حكومة الرئيس بشار الأسد، حتى مع تواصل انهيار الاقتصاد وانتشار الاحتجاجات المناهضة للحكومة مرة أخرى في الجنوب.

نهج الإصلاح الوحيد لمحاربة هذه الأزمة يتطلب الاستعداد السياسي لإعادة ترتيب أولويات الرفاهة البشرية والبيئية

وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن السوريين يعانون حاليا من ضغوط إنسانية في كل أرجاء البلاد، للمرة الأولى منذ بداية الصراع.

وكان 15 مليونا من سكان سوريا البالغ عددهم 22 مليونا في حاجة إلى المساعدة الإنسانية في 2022، و12 مليونا يعانون من انعدام الأمن الغذائي، خاصة في الشمال الذي تسيطر عليه المعارضة.

وارتفعت هذه الأرقام بسبب الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا في فبراير 2023، وأدى إلى مقتل وتشريد عشرات الآلاف في شمال غرب سوريا.

وتفاقم الوضع الإنساني أكثر بسبب فشل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في التوصل إلى توافق في الآراء في يوليو بشأن توسيع نطاق المساعدات عبر الحدود إلى الشمال الغربي من خلال معبر باب الهوى الحدودي.

وسبّب الاتفاق اللاحق مع الحكومة السورية تراجعا حادا في تسليم المساعدات الإنسانية.

وتقول الباحثة غير المقيمة في برنامج المناخ والمياه في معهد الشرق الأوسط ميغان فيراندو إنه مع تعدد التحديات الإنسانية والسياسية والاقتصادية في سوريا بالتزامن مع فصول الصيف الحارة والجافّة، تفاقمت العوامل المرتبطة بالصراع والمناخ، مما خلق ما يسمى بـ”أزمة المياه الثلاثية”.

وتعكس أزمة المياه الثلاثية في سوريا ثلاث أزمات تتمحور حول موثوقية الموارد المائية في جميع أنحاء البلاد.

وترتبط الأزمة الأولى بموجات الجفاف المتتالية التي ضربت المنطقة خلال فصول الصيف الثلاثة الماضية، والتي شهدت خلالها انخفاض هطول الأمطار بنسبة تصل إلى 60 في المئة.

وكانت المرة الأخيرة التي حدثت فيها حالات الجفاف المنتظمة خلال السنوات التي سبقت بداية الحرب الأهلية في 2011.

وتشهد سوريا منذ 2021 درجات حرارة مرتفعة قياسية مرة أخرى، مما تسبب في حرائق الغابات وموجات الجفاف على نطاق واسع.

وكان التأثير على الاقتصاد السوري القائم على الزراعة مدمرا في سياق الاقتصاد المنهار ونقص الدعم الحكومي.

ويشهد انعدام الأمن الغذائي ارتفاعا كبيرا بالفعل منذ بداية الصراع. وكانت سوريا مكتفية ذاتيا في إنتاج القمح قبل 2011، حيث كانت تنتج حوالي 4.1 مليون طن سنويا. لكن مساحات شاسعة من الأراضي أحرِقت أو دُمرت خلال القتال، مما جعل الحقول غير صالحة للزراعة.

وتركت الأزمة الاقتصادية الأوسع نطاقا التي سببتها الحرب العديد من المزارعين غير قادرين على إطعام مواشيهم أو الاستثمار في محاصيلهم.

ويبلغ إنتاج سوريا اليوم من القمح 2.2 مليون طن سنويا، مما يجعلها مستوردا صافيا. وكان هذا الوضع أبرز في شمال شرق سوريا، الذي اعتبر تاريخيا سلة غذاء البلاد والمصدر الرئيسي لإنتاج القمح.

وتكمن الأزمة الثانية في الانخفاض الحاد في منسوب مياه نهر الفرات. وينبع هذا النهر من تركيا ويتدفق عبر سوريا والعراق إلى الخليج، ويمثل مصدر المياه الرئيسي لأكثر من 5 ملايين شخص في جميع أنحاء سوريا. لكن تدفق نهر الفرات وصل إلى مستويات منخفضة خطيرة خلال ثلاثة فصول صيف على التوالي.

مع انخفاض كمية المياه التي يحملها نهر الفرات، يزداد تركيز الملوثات الضارة في المياه، ويرتفع معدل الإصابة بالأمراض المنقولة والمشاكل الصحية المرتبطة بها

وتأتي غالبية مياهه من المرتفعات الأرمنية، حيث تسبب نقص هطول الأمطار لسنوات عديدة في انخفاض تدفق النهر على المدى الطويل.

ومن المتوقع أن يؤدي انخفاض هطول الأمطار والظروف المناخية الأكثر سخونة إلى تسجيل انخفاض بنسبة 23.5 في المئة في تدفق الأنهار بحلول نهاية القرن مقارنة بالعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ويرتبط عامل آخر بانخفاض تدفق الأنهار للسنة الثالثة على التوالي، وهو سياسي.

واتُهمت تركيا بتقييد تدفق المياه على الحدود مع سوريا منذ 2021، مع ما ينتج عن ذلك من عواقب في سوريا والعراق.

وترتبط سوريا وتركيا باتفاقية لتقاسم المياه تعود إلى 1987 تضمن لسوريا متوسط 500 مليون متر مكعب من المياه في الثانية. لكن كمية المياه القادمة من تركيا انخفضت إلى أقل من 300 مليون متر مكعب في الثانية منذ يناير 2021.

وتزامن هذا مع بداية الجفاف ومحاولات تركيا شلّ القوات الكردية في شمال سوريا، مما يدل على أن حجب المياه كان مدفوعا جزئيا بأسباب تكتيكية. ونفت تركيا أي مسؤولية عن الانخفاض الحاد في تدفق الأنهار، مشيرة إلى حالات الجفاف التي تعاني منها هي نفسها.

ويخلّف تأثير نقص المياه على الزراعة والثروة الحيوانية والأمن الغذائي نتيجتين رئيسيتين، أولاهما أن النقص يؤثر على الخدمات العامة على نطاق أوسع، حيث تقترب بعض السدود الكهرومائية الرئيسية على طول نهر الفرات من الوصول إلى “المستوى الميت” (الحد الأدنى لمستوى المياه اللازم لإنتاج الكهرباء)، مما يخلق عواقب وخيمة على إنتاج الكهرباء المتعثر بالفعل في سوريا. وثانيا، تتفرّع المشاكل المتعلقة بكمية المياه إلى أخرى تتعلق بنوعيته.

ومع انخفاض كمية المياه التي يحملها نهر الفرات، يزداد تركيز الملوثات الضارة في المياه، ويرتفع بالتالي معدل الإصابة بالأمراض المنقولة بالمياه والمشاكل الصحية المرتبطة بها. ويعد تدهور جودة المياه أحد الأسباب الرئيسية لعودة الأمراض وانتشارها في سوريا مؤخرا، وشملت وباء الكوليرا الذي تفشى في سبتمبر 2022.

ويرتبط العنصر الثالث في أزمة المياه الثلاثية بالنزاع. وسُجّل خلل في محطة مياه علوك، الواقعة شمال شرق سوريا بالقرب من الحدود التركية. ويعتمد نصف مليون شخص على المحطة للشرب.

وشنت القوات المسلحة التركية والجيش الوطني السوري (التابع للمعارضة) في أكتوبر 2019 هجوما عسكريا (عملية نبع السلام) أنشأ منطقة عازلة بطول 30 كيلومترا ضد قوات سوريا الديمقراطية على طول الحدود السورية – التركية.

وأصبحت محطة مياه علوك الآن جزءا من هذه المنطقة العازلة. ومنذ 2020، بقيت علوك معطّلة بشكل منتظم، مما قوّض وصول المياه الصالحة للشرب إلى سكان المنطقة.

ويتهم الأكراد الأتراك، قائلين إنهم يمنعون المياه عمدا عن المنطقة التي يسيطرون عليها.

ويقول الأتراك إن الأعطال الفنية الناتجة عن أزمة الكهرباء هي التي تعيق عمل المحطة بشكل سليم.

ويصعب تقييم الأسباب الحقيقية بسب بالافتقار إلى الشفافية والرقابة. لكن من المؤكد أن القضية مسيسة إلى حد كبير وتغذي ديناميكيات الصراع، وأن منطقة شمال شرق سوريا بأكملها لم تتمكن من الاعتماد على علوك لمدة ثلاث سنوات. ولجأ الناس إلى البدائل بعد حرمانهم من مصدر المياه الرئيسي، وانطلقوا في حفر الآبار. لكن هذا سبّب الإفراط في استخراج المياه الجوفية بشكل مثير للقلق وأدى إلى انخفاض مستويات المياه الجوفية التي تراجعت بالفعل في العقود الأخيرة. كما تنتشر مخاوف جدية بشأن نوعية المياه في هذه الآبار والمخاطر الصحية المرتبطة بشربها.

وتظهر أزمة المياه الثلاثية في سوريا أن البيئة تُسيّس في الصراع. ويؤدي الجفاف إلى استنزاف نهر الفرات ومصادر المياه الأخرى، بما يُفاقم الوضع الصعب الذي يعيشه الملايين من السوريين في جميع أنحاء البلاد. فليست المياه موردا قائما بذاته، بل هي مرتبطة بالأمن الغذائي، والأمن الاقتصادي، والصحة، واستمرارية الخدمات العامة الحيوية.

وتعد المياه باعتبارها موردا أساسيا هدفا جذابا للسيطرة والنفوذ والميزة التنافسية أثناء الصراع. ولم تكن أزمة محطة مياه علوك ستخلف الآثار المدمرة التي يشهدها الأشخاص الذين يعيشون في شمال شرق سوريا لو كانت لديهم بدائل كافية وقابلة للتطبيق.

ولا تعد حماية البيئة أولوية حين تصبح من عوامل الصراع. وتركت سنوات الحرب بصماتها على النظم البيئية في سوريا، حيث تلوثت الموارد المائية والحقول بسبب الألغام الأرضية والمتفجرات من مخلفات الحرب، ودُمرت الموائل الطبيعية الموجودة في مناطق النزاع.

وخسرت سوريا 20 في المئة من غطائها الشجري منذ بداية الصراع، وتواصل التدهور بسبب حرائق الغابات خلال السنوات الأخيرة.

ولن تنحسر أسباب أزمة المياه الثلاثية المرتبطة بالمناخ في السنوات المقبلة، حيث تصبح سوريا أكثر جفافا وسخونة. ويتطلب نهج الإصلاح الوحيد لمحاربة هذه الأزمة الاستعداد السياسي لإعادة ترتيب أولويات الرفاهة البشرية والبيئية. ولكن سجل سوريا في هذا المجال لم يكن واعدا حتى الآن.

العرب