بعد مرور سنة على أحداث الحراك الشعبي الذي شهدته إيران بعد مقتل الفتاة مهسا أميني، يؤكد المسؤولون على المستويين السياسي والأمني – العسكري أن النظام الإسلامي استطاع تجاوز التهديد الذي تعرض له نتيجة استغلال أطراف إقليمية ودولية هذه الأحداث ومحاولتها العمل للإطاحة بالنظام.
ويبدو أن السلطة ومنظومتها الأمنية لم تكتف بما قامت به من أعمال أمنية وعمليات قمع وملاحقة واعتقال (أكثر من 20 ألف معتقل خلال الأحداث، أطلق سراح الغالبية منهم، وما زال بعضهم في السجون، وصدرت في حقهم أحكام بالسجن سنوات عدة فيما أعدم بعضهم بتهمة القيام بأعمال قتل طاولت أفراداً من الشرطة)، بل عملت بشكل حثيث من أجل استعادة سيطرتها على الأوضاع، وقامت بإعادة تقويم شامل لكل المستويات الثقافية والإعلامية والسياسية والأمنية، من أجل معالجة مكامن الخلل التي وضعت هذه المنظومة في مواجهة مستويات متقدمة من التحديات الخطرة التي هددت في لحظة ما أمن واستقرار وبقاء النظام.
ويبدو أن هذه الأخطار والتحديات لم تدفع الممسكين بالدولة العميقة والمنظومة السياسية لإعادة قراءة المشهد السياسي والاجتماعي في المجتمع الإيراني وحال الامتعاض والرفض التي تسيطر على مختلف مستوياته الموالية منها للنظام والمعارضة له نتيجة أداء دوائر القرار التابعة له، أو حتى في إعادة النظر بالمسار الذي بدأه منذ نحو أربعة أعوام في التعامل مع الشكل الديمقراطي للجمهورية الإسلامية المتمثل بالانتخابات البرلمانية أو الرئاسية أو كل المواقع التي من المفترض أن تكون منتخبة من الشعب.
والمسار الذي اختاره النظام في التعامل مع إشكال السيطرة على مراكز القرار في مؤسسات الدولة ينبع من ضرورة تولدت وأصبحت مسلمة لدى الدولة العميقة بعدم قدرتها على التعايش مع قوى سياسية تحمل مشروعاً مختلفاً أو متمايزاً في إدارة الدولة والمجتمع، وليس مخالفاً للنظام في أسسه وعقيدته الإسلامية ودستوره القائم على محورية ولاية الفقيه في القرار والسلطة.
وعلى رغم ما ينتج من هذه السياسة في ما يتعلق بالمشروعية الشعبية والتمثيل الشعبي، إلا أن النظام ومنظومة السلطة أسقطت من اعتباراتها هذا الجانب وغلبت عليه مصالحها في تنظيف الطبقة السياسية وإخراج كل الأصوات المعارضة من دوائر القرار بكل مستوياتها، وعدم حصرها في القيادات العليا ومراكز القرار التنفيذي والتشريعي.
لا شك في أن الانتخابات البرلمانية التي جرت عام 2020 وأنتجت البرلمان الحالي، وبعدها الانتخابات الرئاسية التي جرت عام 2021 وأوصلت الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي إلى قيادة السلطة التنفيذية، لم تكن انتخابات ذات مشاركة شعبية واسعة على غرار ما حصل في انتخاب محمد خاتمي الإصلاحي عامي 1997 و2001، أو حسن روحاني عامي 2013 و2017، لكن النظام كان راضياً عن نتائجها لأنها خرجت بالنتيجة التي هندسها وأرادها، واكتفى بما كرسته أو كشفت عنه من فرز حاد وواضح بين السلطة والمجتمع الإيراني، وبالتالي بات يدرك حجم قاعدته الشعبية والمساحة التي يمكن أن يناور فيها وعليها، على رغم أن تراجع المشاركة الشعبية في العملية الانتخابية قد يفقده ورقة طالما استخدمها في إظهار قاعدته الجماهيرية وتمثيله الشعبي، الذي اعتبره المرشد الأعلى للنظام في أكثر من مناسبة أنه ورقة قوة للنظام في وجه الأعداء والدول التي تتآمر على النظام وتسعى إلى الإطاحة به وتغييره.
هذا المسار الذي أعيد إحياؤه وتكريسه مع البرلمان الحالي وانتخاب رئيسي، يبدو أن النظام لم ولن يتراجع عنه، وسيكرره في الانتخابات البرلمانية المقبلة المقررة في مطلع مارس (آذار) المقبل عام 2024، مع فارق جوهري وهو أن الصراع أو المعركة على التمثيل لن تكون بين التيار المؤيد للنظام أو المحافظين والتيار الإصلاحي المعارض بكل أطيافه، بل ستجري المعركة داخل التيار المحافظ وبين أجنحته، وأن الترجمة العملية التي يقوم بها هذا التيار بتوجيهات المرشد الأعلى الذي أوصى بانتخابات تحقق مشاركة واسعة وكبيرة وتمثل المجتمع الإيراني، لا يبدو أنها تشمل القوى والتجمعات المصنفة في خانة الخصوم أو لا تنتمي إلى المحافظين، بل تتمحور حول سعي أجنحة داخل هذا التيار إلى التغلب على منافسيها من الصنف نفسه، مستعيدين ورقة “الثورية” و”الأكثر ثورية” بحسب تعبير غلام علي حداد عادل رئيس البرلمان الأسبق والشخص المكلف من المرشد الأعلى لمتابعة ملف اختيار المرشحين للانتخابات البرلمانية، في تحديد مدى القرب والبعد عن أهداف الحكومة الإسلامية وسلطتها ومدى الالتزام بالمبادئ والشعارات الثورية والوفاء لها في العداء مع قوى “الاستكبار العالمي”.
وعملية تنظيف السلطة الذي بدأ على المسارين التنفيذي والتشريعي انتقل وتوسع ليشمل المجال الثقافي، بخاصة الجامعات، وتحديداً الجامعات التي لعبت دوراً محورياً في الحراك الشعبي الاعتراضي الذي حصل العام الماضي، ويبدو أن المشرفين على هذا الملف قرروا ألا تمر الذكرى السنوية الأولى لهذه الأحداث إلا وهم قد أتموا المهمة في معاقبة كل من كانت له صلة بهذا الحراك، لذلك ومن دون أية مراعاة لأهمية الكادر التعليمي في الحفاظ على ما تبقى من مستوى أكاديمي في الجامعات الإيرانية، بخاصة الشهرية منها، بدأت وزارة التعليم العالي بتنفيذ علميات إقصاء وإخراج عدد من الأساتذة الجامعيين بذرائع مختلفة، وإحالة بعضهم إلى التقاعد المبكر أو وقف الاستعانة ببعضهم الآخر، ومن باب الحمل على النية الحسنة فإن جدلاً حصل في جامعة “شريف” التقنية التي تعتبر من الجامعات الأولى في إيران بين مجلس الأمناء ونائب رئيس الجمهورية محمد مخبر الذي اعترض على إنهاء خدمات بعض الأساتذة من دون استشارته أو توقيعه باعتباره عضواً في مجلس أمناء هذه الجامعة.
النقاء في المنظومة الثقافية الذي يعتبره المتطرفون طريق العودة للمثل الثورية الأولى، يسير بالتوازي مع مسار النقاء السياسي والتنفيذي والتشريعي، وبالتالي إعادة إنتاج المنظومة بما يخدم الوصول إلى الحكومة الإسلامية، إلا أن أعراض المرض الداخلي بدأت بالظهور سريعاً، ويبدو أن المرحلة المقبلة ستشهد نوعاً جديداً من الصراعات، وهذه المرة داخل بيت السلطة بين التقليديين والمتطرفين، وبين المتطرفين والأشد تطرفاً، وهي صرعات قد يوظفها النظام لإنتاج ديمقراطيته وتعدديته الخاصة التي تناسبه ولا تشكل قلقاً له، على رغم أنها قد تكون مصدر خطر على إيران واستقرارها.