نحو مدونة أسرة تستجيب لحس ملكي استشرافي

نحو مدونة أسرة تستجيب لحس ملكي استشرافي

مضمون الرسالة الملكية الموجهة لرئيس الحكومة المغربية بشأن الذهاب في طريق تعديل مدونة الأسرة (قانون الأسرة)، كان واضحا وشاملا ودقيقا. سواء من ناحية اللغة المستعملة أو مكان المداولات التي هي أكاديمية المملكة بالرباط، والمجال الذي يجب أن يتحرك فيه المؤهلون للمداولة في تلك التعديلات المقترحة في تناغم مع حس ملكي استشرافي ومجتمع يتطور.

قبل ذلك كانت الخطب الملكية تصر على المحافظة على الأسرة المغربية كلبنة أساسية لاستمرارية وتماسك المجتمع والدولة، مع المضي قدما في إنتاج بنود تؤطر المزاوجة بين مركزية الأبعاد القانونية والقضائية للموضوع مع زوايا النظر الشرعية والحقوقية، أو تلك المتعلقة بالسياسات العمومية في مجال الأسرة، وذلك تجاوزا للعيوب والاختلالات، التي ظهرت عند تطبيقها القضائي، ومواءمة مقتضياتها مع تطور المجتمع المغربي ومتطلبات التنمية المستدامة.

المدونة التي استوفت عقدين من عمرها، حان وقت إعادة النظر في بنودها ومدى ملاءمتها مع التغيرات الحاصلة داخل المجتمع، ولكن أي تغيير يأتي مؤطرا برؤية العاهل المغربي الملك محمد السادس، أي بصفته الدينية حتى لا يكون مناسبة لتسلق الأحزاب والجمعيات التي يغلب عليها طابع الإسلام السياسي، والصفة الدنيوية كي يقف في وجه أي توجه استلابي يهدم الخصوصية باستيراد ما لا يوائم طبيعة الأسرة المغربية. بمعنى أن أي تعديل عليها يستلزم عدم الخروج عن الإطار الذي وضعه الملك رئيس الدولة ورئيس المجلس العلمي الأعلى دون تراجع عن التقدم المحرز في مجال حقوق المرأة خدمة لوحدة الأسرة وتماسكها.

◙ من خلال اعتماد مقاربة تشاركية واسعة، لما سيتم اقتراحه من تغييرات، وتعديلات، يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار خلاصات الاستشارات الواسعة، وجلسات الاستماع المُحكَمة

المناقشات ستستحضر كل ما يضمه قانون الأسرة، من إجراءات الطلاق التي تتجاوز 6 أشهر، والنسب، وحضانة الأطفال، والزيارة، والدعم (الطفل والزوج)، والأوامر التقييدية للعنف المنزلي، والقضايا المتعلقة بالأسرة. وعليه سيكون الكل متوافقا مع نظرة ملك يرى بآفاق ونظرة أوسع لتحقيق إنصاف أسرة، لأن العاهل المغربي أكد أن المدونة ليست فقط للمرأة وإنما للزوج والأطفال ضمن الهوية المغربية التي يتبوأ فيها الدين الإسلامي الصدارة.

لا مجال للمزايدات السياسية سواء كانت حداثية أو محافظة، لأن الملك ضامن لهوية متوازنة بين الأصالة والمعاصرة، ومنه نستحضر خطاب العرش الموجه إلى الشعب المغربي في 30 يوليو 2022، حينما قال العاهل المغربي “نحن حريصون على أن يتم ذلك، في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي، وأن يتم الاعتماد على فضائل الاعتدال، والاجتهاد المنفتح، والتشاور والحوار، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية”.

من هذا المنطلق، تضيف الرسالة الملكية، فإن المرجعيات والمرتكزات تظل دون تغيير. ويتعلق الأمر بمبادئ العدل والمساواة والتضامن والانسجام، النابعة من ديننا الإسلامي الحنيف، وكذلك القيم الكونية المنبثقة من الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب.

أحزاب ومنظمات نسوية وحقوقية ومنظمات مجتمع مدني ستتنافس في تقديم مقترحاتها وهو ما يشكل فرصة لإغناء قانون الأسرة. وعندما تصل المدونة إلى أنظار العاهل المغربي بعد ستة أشهر من الآن وبعدها تمر نحو البرلمان للمصادقة عليها، سنكون في نهاية المطاف أمام نص تشريعي أكثر توازنا يخدم استقرار الأسرة والمجتمع، وهي استجابة لتوجيه الملك محمد السادس في رسالته عندما أكد “وإننا واثقون بأن إعمال فضيلة الاجتهاد البناء هو السبيل الواجب سلوكه لتحقيق الملاءمة بين المرجعية الإسلامية ومقاصدها المثلى، وبين المستجدات الحقوقية المتفق عليها عالميا”.

إمساك العاهل المغربي بأطراف مدونة الأسرة حتى لا تخضع للأهواء السياسية، وفتح المجال لإجراء نقاش مفتوح يثبتان أن المغرب في حالة صحية دستوريا وسياسيا ومجتمعيا، حتى تلك التخوفات التي طفت على سطح المداولات الفيسبوكية يمكن أخذها كحالة مجتمعية يجب أخذها بعين الاعتبار، لأنها تخدم المدونة في عمقها وأهدافها، وهذا هو السياق الذي رسمه ملك المغرب، بتشديده: “بصفتنا أمير المؤمنين، لا يمكننا أن نحل ما حرم الله ولا أن نحرم ما أحله جل وعلا”.

في الأغلب أن المناقشات التي ستدور حول بنود ومواد المدونة غايتها التغلب على الثغرات القانونية المتعلقة بالنزاعات بين أعضاء الأسرة، في مسائل الميراث والحضانة والزواج والطلاق وغيرها، لأن هذا الأمر يخدم الدولة المتمسكة بالشريعة المنفتحة على آفاق أرحب في القانون والحقوق والتشريعات والتحولات الاجتماعية، بما يخدم الأسرة ويحمي الجميع من أخطار التفكك والأزمات الاجتماعية منها التشرد وانخراط الشباب في المخدرات والانحرافات بكل تلاوينها.

قانون الأسرة يحتاج إلى خبراء في مجالاتهم الاقتصادية والقانونية والفقهية والأنثروبولوجية والاجتماعية، والباحثين الأكاديميين، وباقي الممارسين في ميدان قانون الأسرة، يتمتعون بالمهارة في التعامل مع تفسيرات الشريعة مع الحفاظ على التوازن الديني والاجتماعي للأسرة المغربية، لهذا فمن خلال اعتماد مقاربة تشاركية واسعة، لما سيتم اقتراحه من تغييرات، وتعديلات، يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار خلاصات الاستشارات الواسعة، وجلسات الاستماع المُحكَمة للخروج بنص قانوني يساهم في حل النزاعات ويستشرف مستقبل أسرة متماسكة ومنتجة.

◙ المدونة التي استوفت عقدين من عمرها، حان وقت إعادة النظر في بنودها ومدى ملاءمتها مع التغيرات الحاصلة داخل المجتمع، ولكن أي تغيير يأتي مؤطرا برؤية العاهل المغربي الملك محمد السادس

تقسيم الإرث، وتقسيم الأموال المكتسبة بين ‏الزوجين خلال فترة العلاقة الزوجية، والطرد من بيت الزوجية، والولاية الشرعية والحضانة، وزواج القاصرات تعتبر أبرز المواضيع إثارة للنقاش، لذا يمكن أن تكون النزاعات بين الزوجة والزوج التي تشمل الأطفال حساسة للغاية، لذلك ستكون هذه اللقاءات بين مختلف المتدخلين فرصة لتفهم ذلك، تفهم ماذا تريد الأم والإكراهات المتعلقة بالحضانة وأيضا التأثير العاطفي على الأطفال، وبالتالي فإن رفاهيتهم ومصلحتهم ستكون دائما في طليعة أذهان هؤلاء كخبراء وآباء.

هناك من يركز على تقييد السلطة التقديرية للقضاة وتقييد أي تفسير مرن يستخدمه موظفو السلطة القضائية بمحاكم الأسرة، في ما يتعلق بتزويج القاصرات وضبط الموضوع بسن ثابتة لا تخضع لأي اعتبارات خارج المركزية القانونية. وحتى هذا البند يحتاج إلى مداولات تستحضر الأولويات التي يرتكز عليها القاضي في حكمه وقراره.

من المحتمل أن يكون هناك نزاع حول الشؤون المالية أو الممتلكات أو الأطفال لأن ذلك قد يزيد من تعقيد مهمة الخبراء، انطلاقا من خلفياتهم الفكرية والأيديولوجية والظروف المحيطة، ويمكن أن يتخذ العنف المنزلي أشكالا عديدة، ونحن نعلم مدى صعوبة التعرف عليه واتخاذ القرار لطلب المساعدة، بالتالي المدونة عليها عبء تقديم الدعم العملي الحساس الذي تحتاجه المرأة والطفل وأيضا الزوج لحماية الأسرة من التفكك.

أخيرا، تعتبر المادة 4 من المدونة الزواج ميثاق تراض وترابط شرعي بين رجل وامرأة على وجه الدوام، غايته الإحصان والعفاف وإنشاء أسرة مستقرة، برعاية الزوجين طبقا لأحكام هذه المدونة، بالتالي هل سيتم استخدام اتفاقيات ما قبل الزواج، بشكل متزايد كوسيلة لحماية أصولهما وممتلكاتهما، إنه خيار فعال للغاية وغير تصادمي لحل التسويات والترتيبات المالية للأطفال أيضا، خاصة عندما تكون هناك قضايا أكثر تعقيدا يجب أخذها في الاعتبار مرتبطة بالإرث الذي لا يمكن الخروج فيه عما سطرته الشريعة الإسلامية.

العرب