أصبح سكان جنوب لبنان مستعدين للحرب، حزم الآلاف منهم أغراضهم وانتقلوا من قرى خط التماس إلى مدن فيها أمن نسبي مثل صور وبيروت، على فرض أن الجيش الإسرائيلي لن يهاجم مراكز السكان. الكثير من المدارس في جنوب لبنان أغلقت بتعليمات من وزارة التعليم، ودور السلطات تحملت المسؤولية عنه جمعيات مدنية، التي تشغّل منظومات بديلة والتعليم عن بعد، بقدر ما يمكن تعلمه عن بعد عندما تكون شبكة الإنترنت متعثرة أو غير موجودة.
قبل أسبوع، كان أصحاب المحلات هادئين، وأبلغوا بأنه لا يوجد ذعر شرائي، وأن والأدوية متوفرة، والناس “يراقبون عن كثب” ما يحدث في غزة. ولكن لبنان الذي يعمل حسب توقيت غزة، دخل في الأسبوع الماضي إلى مرحلة أصبحت فيها الحرب في ساحته. أول أمس وأمس، تم الإبلاغ عن تجميع المواد الغذائية وشراء مذعور للأدوية، لا سيما شراء الوقود من أي مصدر. تتضح في كل تقرير وكل مقابلة مع المواطنين المقارنة مع حرب لبنان الثانية في 2006، وأننا “سنكون مستعدين في هذه المرة”. القصد ليس السيارات العسكرية، بل ثلاجات مليئة وسيارات مملوءة بالوقود وصيدلية منظمة في البيت. التوتر يزداد أيضاً في حي الضاحية وحارة حريك وبئر العبد، وهي أحياء في بيروت تتركز فيها قيادة “حزب الله” وأماكن سكن أعضائه.
قال الكثير من السكان إنهم “جهزوا الحقائب مع أغراض ثمينة وهويات وجوازات السفر وأموال. من لديه بيت صيفي في الجبل توجه إليه، والأكثر ثراء يحاولون مغادرة الدولة. قال آخرون إنهم غير مستعدين ليصبحوا لاجئين في بلادهم، وقرروا البقاء في بيوتهم. “ليحدث ما يحدث”، لكن حتى من خططوا لتغيير الشقة في فترة الحرب يواجهون أصحاب الشقق الذين يستغلون الوضع ويطلبون أجرة مرتفعة، أحياناً ضعف ما كان سائداً قبل الحرب.
التصريحات التي تصل من إسرائيل عن “تسوية بيروت” وعن تدمير وتخريب سينزل على لبنان إلى أن “يشتاقوا إلى حرب لبنان الثانية”، تسمع جيداً في الدولة المدمرة أصلاً، لكن لا يوجد للمدنيين الكثير مما يفعلونه على المستوى الشخصي. الأزمة الاقتصادية الشديدة التي تمر بها الدولة منذ 2019 وانخفاض سعر الليرة اللبنانية مقابل الدولار 90 في المئة، والقيود المفروضة على إخراج ودائع بالدولار من البنوك وخزينة الحكومة الفارغة، كل ذلك يضع الدولة في وضع يختلف كلياً عن الوضع في 2006. في حينه، كانت البنوك تعمل، والرواتب التي تم دفعها في الوقت والقوة الشرائية للعملة كانت أكبر بأضعاف مما هي الآن. حصل لبنان في حينه على ضربة اقتصادية قدرت بملياري دولار. التقديرات الحذرة تتحدث الآن عن أضرار اقتصادية محتملة، 17 – 19 مليار دولار.
في السنوات الأولى بعد انتهاء تلك الحرب، كانت دول أوروبية ودول الخليج على استعداد لتحمل جزء من العبء والمشاركة في إعادة إعمار الدولة. أما الآن فلا توجد أي جهة مالية، دولة أو منظمة، مستعدة للإسهام حتى بدولار واحد لهذه الدولة التي تحتضر، ربما باستثناء المساعدات الإنسانية. وضع لبنان بائس جداً إلى درجة أن الجيش يعتمد على منحة من حكومة قطر قبل سنة بمبلغ 60 مليون دولار، وعلى منحة بمبلغ 72 مليون دولار خصصتها الإدارة الأمريكية لتحسين رواتب الجنود ورجال الشرطة. حولت قطر وجبة واحدة من المساعدات قبل توقفها، في حين أن المنحة الأمريكية بدأت في الوصول، وربما تتوقف في آذار القادم. الضباط والجنود المحتاجون، الذين وفرت لهم المنحة 100 دولار في الشهر، لا يعرفون الآن كيفية إعالة عائلاتهم. الآلاف تركوا الخدمة العسكرية أو الشرطية، وكثيرون بالتأكيد سيقدمون استقالاتهم إذا توقفت هذه المنح.
حكومة نظرية
إن مفهوم “حكومة” في لبنان مفهوم نظري فقط؛ فليس فيها خطة طوارئ لعلاج المدنيين، أما الملاجئ العامة فهي مفهوم غير معروف، وترتيبات نقل المهجرين ترتبط بقدرة كل مواطن، والمؤسسات الحكومية مثل المدارس ورياض الأطفال والحدائق العامة هي التي ستكون متاحة للجمهور في حالة اندلاع الحرب.
الحكومة المؤقتة برئاسة نجيب ميقاتي، الملياردير الذي لا يقلق على مصدر راتبه، تملك الآن القدرة على التحذير والتوسل لزعماء العالم لوقف الحرب. لا يملك ميقاتي أي تأثير على “حزب الله”، المشارك في الحكومة. يعمل لبنان منذ سنة بدون رئيس، والحكومة المؤقتة لا تنجح في الانعقاد لاتخاذ قرارات حيوية لإدارة جارية للدولة (بالأحرى من أجل اتخاذ قرارات حول الإصلاحات الهيكلية). قائد الجيش، جوزيف عون، ربما ينهي خدمته في كانون الثاني القادم، والجيش كله يتكون من وحدات مقسمة. لا توجد في لبنان قوة سياسية محلية باستثناء “حزب الله”، يمكنها أن تشكل عنواناً لإجراء المفاوضات.
إن حزام الدعم العربي، لا سيما السعودية التي منحت الرعاية لعائلة الحريري، في البداية الأب رفيق، وبعد ذلك الابن سعد، الذي اكتشف أنه سياسي فاشل، أخذ يتضاءل إلى أن اختفى. عبرت السعودية في السنة الماضية عن الاستعداد لمساعدة حكومة لبنان، لكن شريطة ألا يكون “حزب الله” مشاركاً فيها. هذا طلب رفض بالطبع، وبقيت مساعدة السعودية مجرد تصريح فارغ. لكن عند التوقيع على استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران في آذار الماضي، بزغ أمل في أن تنجح الدولتان في التوصل إلى تفاهمات حول قضية تشكيل حكومة متفق عليها في بيروت وتعيين رئيس جديد. “حزب الله” الذي تفاجأ من الاتفاق، خشي من إمكانية قيام السعودية وإيران بحياكة “مؤامرة” من وراء ظهره تؤدي إلى تقليص مكانته. لم يحدث شيء من ذلك، وإيران ولم لا تنوي ضم شركاء إلى احتكارها لاستخدام “حزب الله” وعن طريقه السيطرة السياسية، وفي كل الحالات الاقتصادية، في لبنان.
إسرائيل تلقي المسؤولية على الحكومة حول التطورات في لبنان، لكن توجيه أصبع الاتهام هذا مثل لعبة المضرب بدون جدار. وتدمير البنى التحتية المدنية سيدفع ثمنه كالعادة السكان العاديون. هذه التهديدات فعالة عندما يكون في الطرف الثاني هيئة مسؤولة لها ما تخسره ويمكنها اتخاذ قرارات وتطبيقها. حتى أمام حماس، كانت هذه التهديدات مجدية أكثر مما هي أمام حكومة لبنان، بسبب سيطرتها الكاملة على إدارة حياة سكان القطاع وتحديد سياسة مستقلة بقدر ما.
السؤال الاستراتيجي هو: إلى أي درجة يمكن لمثل هذه التهديدات أن تؤثر على “حزب الله” وإيران؟ الافتراض أن هذين الجسمين لا يريدان فقدان الدولة التي تعطي طهران المكان الأهمية لها في الشرق الأوسط. وتعطي “حزب الله”، رغم أنه أقلية في الحكومة، القوة لتحديد السياسة في لبنان تجاه إيران. حتى الآن، لم يتم دحض هذا الافتراض. ورغم نشاطات “حزب الله” المتزايدة ضد إسرائيل فإنه يتصرف مثل حكومة مسؤولية عن دولة وليس كمنظمة. ورغم أنه اختبار صعب جداً لتوازن الردع الثنائي، فمن المهم ملاحظة أن الردع ما يزال موجوداً، وهو الذي يحد من شدة المواجهة في الوقت الحالي.