معضلة إيران في ظل القصف الإسرائيلي لغزة

معضلة إيران في ظل القصف الإسرائيلي لغزة

في خضم القصف الإسرائيلي على قطاع غزة، كانت إيران الحاضر الغائب الذي يتردد بقوة ذكره انتظاراً لدوره في الحرب الدائرة. وبتتبع الموقف الإيراني من الحرب الدائرة الآن نجده اتسم بالتصريحات القوية المتوعدة لإسرائيل من جهة، والغياب التام لأي فعل عسكري داعم لـ”حماس” أو قطاع غزة، مما جعل بعضهم يعتبر أن إيران تعاني معضلة بسبب الحرب على غزة، فتقاعسها عن دور في الأحداث الجارية يقوض صدقية استراتيجية المقاومة التي تسوقها في المنطقة هي وحلفاؤها.

وهنا نحاول فهم لماذا التركيز على الدور الإيراني في الأحداث الجارية ولماذا غاب هذا الدور تماماً عن رفع المعاناة عن سكان غزة والمقاومة التي دائماً ما تعلن إيران أنها جزء من محورها.

دائماً ما رفعت إيران شعار دعم القضية الفلسطينية وحركات المقاومة، إذ عملت منذ سنوات طويلة على جعل القضية الفلسطينية بمثابة مركز الجاذبية في خطابها المتواصل عن المستضعفين، وعملت على دعم عدد من الحركات الفلسطينية السنية مثل منظمة “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، كما وظفت دعمها للقضية الفلسطينية باستمرار للتدليل على عدم اقتصار مساندتها للجماعات الشيعية فقط، بل دعم الجماعات السنية، وهدفت من دعمها إضفاء تأييد وشعبية لسياستها وسط المنطقة العربية والعالم الإسلامي.

ونجحت إيران في ذلك مع الخطاب الشعبوي الذي استخدمه كثير من قادتها، ومن ثم استخدمت طهران القضية الفلسطينية للتدليل على أمرين، الأول رفع شعارات نصرة المستضعفين من جهة ومعاداة إسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى. وكثيراً ما أشارت خطابات المرشد الإيراني علي خامنئي في أكثر من موضع إلى المساعدة التي تقدمها إيران للفلسطينيين كواجب على جميع المسلمين، ففي أحد خطاباته قال “نحن نعتبر أنفسنا ملزمين بأن ندعمك بكل الطرق، هذا واجب ديني وواجب إنساني ويتجاوز الأحداث السياسية والتطورات، وإن شاء الله سنفي بهذه المسؤولية كما في الماضي”.

وفى سبيل ترسيخ الصورة الذهنية عن إيران وربطها بالقضية الفلسطينية وعدم صبغها بكونها دولة مذهبية، أسست علاقاتها بالتنظيمات السنية مثل “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، ودعمتها بالأموال في الانتخابات والتظاهرات أثناء الحرب الإسرائيلية خلال 2008 – 2009، وفتحت باب التطوع للكتائب الاستشهادية، كما مدت هذه الحركات بالأسلحة والتدريب والدعم المالي وربطتها بمحور المقاومة الذي يشمل كذلك “حزب الله” اللبناني.

وأخيراً وفي إطار حرب ظل بين إيران وإسرائيل تباهت الأولى بما سمته “حرب الساحات الموحدة”، أي إشعال بؤر التوتر والتصعيد على حدود إسرائيل في أكثر من جبهة، وهو ما حدث منذ أشهر، واعتبرته إسرائيل مصدر تهديد جديداً لأمنها القومي.

لذا حينما اندلع القصف الإسرائيلي على غزة تساءلت كثير من التحليلات: متى ستتدخل إيران لمساندة الفلسطينيين وتقديم الدعم المنتظر لحركة “حماس”؟

ويمكن القول إن الموقف الإيراني من الحرب الإسرائيلية على غزة حتى هذه اللحظة لم يراوح مكانه، إذ أشاد خامنئي بهجوم “حماس” على إسرائيل في عملية “طوفان الأقصى” لكنه حرص وبقية المسؤولين الإيرانيين على نفي أية علاقة بين إيران وهجوم “حماس”، وأنها لم تمد “حماس” بالأسلحة وليس لديها نية للتدخل العسكري، ومع مرور أسابيع على قصف إسرائيل لم تحاول طهران تقديم دعم لـ”حماس”، لكن تصريحات ذات لهجة قوية ثم خففت بعثة إيران لدى الأمم المتحدة لهجتها، وطمأنت القوى الغربية بأن قواتها المسلحة لن تتدخل في الصراع ما لم تهاجم إسرائيل مصالح إيران أو مواطنيها.
الفعل السلبي لإيران وسياسة النأي بالنفس عن الأحداث، ربطته سلطة طهران بمحاولة تفادي غضب مواطنيها حال التدخل، لا سيما أنهم سابقاً رفعوا شعارات تندد بدعم إيران لسوريا ولبنان، ويبدو ذلك مبرراً واهياً لأن النظام الإيراني اعتاد الاستثمار في دعم حلفائه الإقليميين والتدخل في العراق وسوريا ولبنان واليمن بكل الأدوات المالية والعسكرية والاقتصادية، حتى في ظل ما يعانيه من عقوبات اقتصادية من دون أي اعتبار للوضع الاقتصادي المتدهور، وحتى عندما اندلعت المظاهرات منذ 2018 وحتى 2022 ورفعت فيها الشعارات المنددة بالتدخل في اليمن وسوريا ولبنان لم تتوقف إيران عن التدخل ولم تعر استياء المواطنين أية أهمية.

إذاً لماذا لم تتدخل إيران لدعم “حماس” شريك محور المقاومة، ولماذا ترسل بإشارات طمأنة للولايات المتحدة والغرب بعدم نيتها التدخل؟

اعتادت إيران توظيف ملفات وقضايا المنطقة للمساومة في علاقتها بالغرب ولا سيما واشنطن، وفي حين شهدت العلاقات بين طهران وواشنطن تهدئة لا تريد إيران خسارة ما حققته من مكاسب أخيراً. وتدور أهم المكاسب التي جنتها في منفعتين، الأولى هي الصفقة التي عقدتها مع واشنطن وأفرج بموجبها عن 6 مليارات دولار مجمدة في البنوك الكورية، وقبلها 4 مليارات من العراق حولت للبنوك القطرية.

المنفعة الأخرى هي انتهاء حظر الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة على إيران لمدة 10 سنوات، ومنعها من شراء أسلحة مثل الدبابات والطائرات المقاتلة يوم الـ18 من أكتوبر كما هو مخطط له بموجب اتفاقها النووي مع القوى الغربية، وذلك على رغم أن فرنسا وألمانيا وبريطانيا كانت أخطرت إيران باستمرار الحظر نظراً إلى إمدادها روسيا بالمسيرات في الحرب الأوكرانية، ومع ذلك رفع الحظر عن إيران، من جانب آخر يمكن للقوى الغربية الموقعة على الاتفاق النووي أن ترسل في غضون 30 يوماً من رفع الحظر خطاباً للأمم المتحدة تعلن عدم امتثال إيران للاتفاق ومن ثم إعادة فرض كل العقوبات الأممية على إيران.

ومن ثم فمن غير المرجح أن تتدخل إيران لدعم “حماس” في مواجهتها مع إسرائيل لعدم إغضاب الولايات المتحدة في الوقت الراهن، لا سيما أنه ليس هناك توتر في العلاقات معها يستدعي تدخل إيران للضغط على الغرب، كما أن طهران وحفظاً لماء الوجه تحاول دفع بعض وكلائها لإطلاق بعض الهجمات الخفيفة على القواعد الأميركية في سوريا لكنها في إطار عسكري منخفض جداً، إذ تعي إيران وإسرائيل وواشنطن قواعد الاشتباك بينهم التي بموجبها تستطيع أن تحدد مقدار الهجمات العسكرية منخفضة الشدة أو التصعيد العسكري الهادف إلى خسائر فادحة.