الحليف الضامن لأمن الإقليم

الحليف الضامن لأمن الإقليم

اللحظة التى سينتهى فيها العدوان الإسرائيلى الدائر الآن على غزة ستبدأ فيها تقييمات ومراجعات كبيرة من جميع الأطراف. لن يقتصر ذلك على أطراف الصراع المباشرين، لكنها ستشمل أيضا القوى الدولية، وفى مقدمتها الولايات المتحدة والقوى الأوروبية. هذه المراجعات لابد أن تشمل تقييما أمريكيا/ غربيا لطبيعة العلاقة مع الإقليم ومع القوى الرئيسية به، بما فى ذلك الحليف الإسرائيلى نفسه، وطبيعة سياسات هذا الحليف من زاوية الأرباح والخسائر بالنسبة للمصالح الغربية، بشكل عام.

وتزداد أهمية هذه المراجعات فى لحظة مهمة على مستوى نظام عالمى يشهد صراعا بين قوة مازالت تهيمن على هذا النظام (الولايات المتحدة)، وأخرى صاعدة تحاول دفع هذا النظام إلى نمط متعدد الأطراف (الصين). هذا الصراع لم يتحول بعد إلى صراع عسكري، وقد لا يصل إلى هذا المستوي، لكن الأهم أنه يشمل صراعا قيميا مهما؛ صراعا بين سياسات أمريكية/ غربية مازالت تقوم على المعايير المزدوجة والتوظيف السياسى للقيم الإنسانية العليا الرئيسية (حقوق الإنسان، الديمقراطية، وغيرهما)، وأخرى صينية تُبَشِر بقيم العدل والإنصاف، والمصير المشترك للإنسانية، وحق الشعوب فى تقرير مصيرها، وعدم التدخل فى الشئون الداخلية، وحق الشعوب فى اختيار نماذجها فى التطور السياسى والاقتصادي، ومازالت تقدم مبادرات عدة لدعم مصداقية خطابها هذا.

إذا افترضنا أن هذه المراجعات ستتسم بالموضوعية وستخضع لحسابات رشيدة، فإن واحدا من الدروس التى يجب أن تخلص إليها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون أن سياسات «الحليف الإسرائيلى» فى الشرق الأوسط أصبحت عبئا على القيم الرئيسية التى يدافع عنها الغرب، وعلى رأسها منظومة قيم حقوق الإنسان، والديمقراطية، والأمن العالمى، والقانون الدولى الإنساني…إلخ.

لقد انتفض الغرب فى مناسبات عديدة سابقة بسبب حالات فردية خضعت لمحاكمات قضائية، لكن «الحليف الإسرائيلى» مازال مصرا على التوسع فى القتل والتدمير خارج القانون الدولى الإنساني، تحت دعم أمريكى ــ أوروبى لتحقيق أهداف تعرف الولايات المتحدة أكثر من غيرها ــ انطلاقا من خبراتها فى أفغانستان والعراق طوال العقدين السابقين ــ أنها أهداف غير عملية. لقد صدرت إسرائيل خطابا للعالم بأنها «واحة الديمقراطية» فى «بحر من الأنظمة السلطوية»! هكذا، اليوم نرى العلاقة القوية بين هذه «الديمقراطية» المزعومة والقتل والتدمير خارج القانون الدولى الإنساني، أو بالأحرى العلاقة الحقيقية بين هذا النمط من «الديمقراطيات الهشة» القائمة على هيمنة تيارات يمينية دينية متطرفة وتبنى سياسات عدائية عدوانية ضد إقليمها المحيط.

هذه الصورة السلبية لن تقف عند حدود إسرائيل، لكنها ستطول حتما الولايات المتحدة والغرب بشكل عام، والقيم الغربية بشكل خاص، والخطاب الغربى بشأن هذه القيم. لم يعد من الممكن التسليم بسهولة بأن هناك علاقة إيجابية مباشرة بين الديمقراطيات الكبري، من ناحية، وانتشار قيم حقوق الإنسان خارج الأقاليم المباشرة لهذه الديمقراطيات الكبري، من ناحية أخري. بمعنى أدق، لم يعد من الممكن التسليم بسهولة بمصداقية خطاب وسياسات هذه الديمقراطيات حول حقوق الإنسان كقيمة عالمية. ولم يعد من الممكن التسليم بسهولة أيضا بوجود علاقة إيجابية مباشرة بين الديمقراطية والأمن العالمى وأمن الأقاليم الرئيسية. لقد أصبحت هذه القيم ضحية الحسابات الانتخابية الضيقة داخل هذه الديمقراطيات، سواء داخل الولايات المتحدة، أو «الديمقراطية المزعومة» داخل إسرائيل! لكن الأخيرة ومن خلاله عدوانها الأخير عمقت هذه الصورة السلبية للغرب.

الاستنتاج المنطقى الذى يجب أن تخلص إليه الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون فى أول مراجعة موضوعية بعد انتهاء هذه الحرب أن سياسات «الحليف الإسرائيلى» أضرت بالغرب وبالقيم الغربية. وإذا افترضنا أن هناك مصلحة أمريكية حقيقية فى استقرار إقليم الشرق الأوسط، واستقرار علاقاته ومصالحه مع الولايات المتحدة لحقبة أخري، فى ظل صراع مهم على قمة النظام العالمي، فيجب أن تنتهى هذه المراجعة المرتقبة بعد الحرب إلى استنتاج واضح بأن «الحليف الإسرائيلي» بات يضر بهذه المصالح، خاصة أن المصالح الأمريكية والأوروبية مع باقى دول الإقليم لا تقل فى أهميتها عن المصالح الأمريكية الأوروبية مع إسرائيل. هذا الاستنتاج يجد تعبيرا عنه فى التحولات الجارية فى الرأى العام الغربى داخل الأجيال الجديدة.

رغم الأسس والسياقات التاريخية التى تطور عبرها التحالف الأمريكي- الإسرائيلي، لكن لا توجد علاقات تحالف أبدية؛ فأى علاقة تحالف تخضع بالتأكيد لحسابات الربح والخسارة، حتى ولو جرى ذلك على مدى زمنى بعيد فى حالة التحالفات الخاصة مثل التحالف الأمريكي- الإسرائيلي. لقد آن الأوان أن تنتقل الولايات المتحدة والغرب من الاستثمار فى حليف «مُزَعْزِعْ للاستقرار» إلى بناء تحالفات ضامنة لاستقرار الإقليم، وأن تنتقل من الاستثمار فى «الحليف العبء على صورة ومصالح الغرب» إلى التحالفات الصديقة للمصالح الحقيقة.

العلاقات المصرية- الأمريكية هى واحدة من أهم العلاقات التى لعبت دورا فى استقرار إقليم الشرق الأوسط، والتى يمكن أن تلعب دورا فى ضمان أمن هذا الإقليم فى المرحلة المقبلة. لقد بات واضحا أكثر من أى وقت مضى أن الرؤية المصرية بشأن الصراع الفلسطيني- الإسرائيلى هى الأكثر ضمانا لاستقرار وأمن هذا الإقليم على المدى البعيد. ولا يقتصر ذلك على هذه القضية المركزية، لكنه ينسحب على باقى قضايا وأزمات الإقليم. مازالت هناك فرصة كبيرة لمراجعات موضوعية، ولبناء تحالف ضامن لأمن هذا الإقليم لمصلحة الجميع.