لا شيء حتمياً في السياسة العالمية. تنطوي العناصر الأساسية للقوة الوطنية، مثل الديموغرافيا والجغرافيا والموارد الطبيعية، على أهمية كبيرة، بيد أن التاريخ يظهر أن هذه العناصر ليست كفيلة وحدها بتحديد أي البلدان مخولة برسم المستقبل، وذلك لأن القرارات الاستراتيجية التي تتخذها البلدان هي الأكثر أهمية، أي كيفية تنظيم نفسها داخلياً، ومكامن استثماراتها، وأي الجهات تختار لتصطف معها، وأي الجهات تتحالف معها، وأي الحروب تخوض، وأيها تردعها، وأيها تتفاداها.
عندما اعتلى الرئيس جو بايدن سدة الرئاسة، أدرك أن السياسة الخارجية الأميركية وصلت إلى منعطف حرج، حيث سيكون للقرارات التي يتخذها الأميركيون الآن تأثير جم على المستقبل. تعد نقاط القوة الأساسية التي تتمتع بها الولايات المتحدة هائلة، سواء من حيث القيمة المطلقة أو بمقارنتها نسبياً بالبلدان الأخرى. تتمتع الولايات المتحدة بعدد متنام من السكان، وموارد وفيرة، ومجتمع منفتح يستقطب المواهب والاستثمار ويطلق العنان للابتكار وإعادة الابتكار. يجب على الأميركيين أن يتحلوا بالتفاؤل حيال المستقبل، لكن السياسة الخارجية الأميركية تطورت في عصر سريع التحولات، والسؤال الراهن هو ما إذا كانت البلاد قادرة على التكيف مع التحدي الرئيس الذي تواجهه: المنافسة في عصر الترابط المتبادل؟
كانت الحقبة التي أعقبت الحرب الباردة فترة تغيرات كبيرة، لكن القاسم المشترك طوال عقد التسعينيات والسنوات التي تلت أحداث 11 سبتمبر تمثل في غياب المنافسة الشديدة بين القوى العظمى. يعزى ذلك في الأساس للتفوق العسكري والاقتصادي للولايات المتحدة، على رغم تفسيره على نطاق واسع باعتباره دليلاً على إجماع العالم على الاتجاه الأساس للنظام الدولي. لقد أسدل الستار الآن على حقبة ما بعد الحرب الباردة بشكل نهائي. احتدمت المنافسة الاستراتيجية وباتت الآن تمس كل جانب من جوانب السياسة الدولية تقريباً، وليس المجال العسكري فحسب، ما من شأنه زيادة تعقيد الاقتصاد العالمي. وهي تغير آلية تعامل البلدان مع المشكلات المشتركة مثل تغير المناخ والأوبئة، فضلاً عن طرح أسئلة جوهرية حول ما يخبئه المستقبل في جعبته.
ينبغي تكييف الافتراضات والهياكل القديمة لمواجهة التحديات التي ستواجهها الولايات المتحدة منذ اللحظة الراهنة حتى العام 2050. ففي الحقبة السابقة، كان هناك إحجام عن معالجة إخفاقات السوق الواضحة التي هددت مرونة الاقتصاد الأميركي. وبالنظر إلى عدم وجود نظير للجيش الأميركي خلال المرحلة الماضية، وكرد فعل على أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، صبت واشنطن جهودها على الجهات الفاعلة غير الحكومية والبلدان المارقة. ولم تركز على تحسين موقعها الاستراتيجي والاستعداد لعصر جديد يسعى فيه المنافسون إلى استنساخ تفوقها العسكري، إذ لم يكن هذا هو العالم الذي واجهته آنذاك، كما افترض المسؤولون إلى حد كبير أن العالم سيتوحد لمعالجة الأزمات المشتركة، على غرار ما فعله في العام 2008 مع الأزمة المالية، كما هو حري به إزاء مواجهة جائحة لا تحدث إلا مرة واحدة كل قرن من الزمان، بدلاً من التشرذم المشهود. في كثير من الأحيان، تعاملت واشنطن مع المؤسسات الدولية على أنها كيانات ثابتة غير قابلة للتغيير، من دون معالجة الطرق التي جعلتها إقصائية ولا تمثل المجتمع الدولي الأوسع.
تجسد التأثير الإجمالي لذلك بأنه على رغم تربع الولايات المتحدة على عرش القوة الضاربة في العالم، فقد بدأت بعض مواضع قوتها الحيوية تضمحل. وعلاوة على ذلك، مع انتخاب دونالد ترمب، بات لدى الولايات المتحدة رئيس يعتقد أن تحالفاتها كانت شكلاً من أشكال الرفاهية الجيوسياسية. وقد احتفلت بكين وموسكو بالخطوات التي اتخذها والتي ألحقت الضرر بتلك التحالفات، إذ رأتا أن التحالفات الأميركية مصدر للقوة الأميركية وليست حجر عثرة في طريقها. وقد انسحب ترامب من النظام الدولي، عوضاً عن العمل على تشكيله.
وهذا ما واجهه الرئيس بايدن عندما وصل إلى سدة الحكم، فقد كان مصمماً ليس فقط على إصلاح الضرر المباشر الذي لحق بتحالفات الولايات المتحدة وقيادتها العالم الحر فحسب، بل أيضاً على استئناف المشروع الطويل الأمد لتحديث السياسة الخارجية الأميركية لمواجهة تحديات اليوم. وقد برزت هذه المهمة بشكل صارخ مع الغزو الروسي غير المبرر لأوكرانيا في شباط (فبراير) 2022، فضلاً عن عدوانية الصين المتزايدة في بحر الصين الجنوبي وعبر مضيق تايوان.
يتمثل جوهر السياسة الخارجية للرئيس بايدن في إرساء أساس جديد للقوة الأميركية بحيث تكون البلاد في موضع أفضل يخولها تشكيل العصر الجديد على نحو من شأنه صون مصالحها وقيمها وتعزيز الصالح العام. وسوف يتحدد مستقبل البلاد من خلال مسألتين: هل هي قادرة على الحفاظ على مزاياها الأساسية في المنافسة الجيوسياسية؟ وهل بإمكانها حشد العالم لمواجهة التحديات العابرة للحدود الوطنية بدءاً من التغير المناخي والصحة العالمية وصولاً إلى الأمن الغذائي والنمو الاقتصادي الشامل؟
في المقام الأول، يتطلب هذا تغيير منظور الولايات المتحدة الفكري في القوة. تولت هذه الإدارة زمام السلطة وهي تعتقد أن قوة الدولة تعتمد على اقتصاد محلي قوي، وأن قوة الاقتصاد لا تقاس بحجمه أو كفاءته فحسب، بل بمدى خدمته لمصالح جميع الأميركيين وخلوه من التبعيات الخطرة أيضاً. فهمنا أن القوة الأميركية تعتمد أيضاً على تحالفاتها، لكن لا بد من تحديث هذه العلاقات، التي يعود تاريخ كثير منها إلى زهاء سبعة عقود، فضلاً عن تفعيلها لمواجهة تحديات اليوم، كما أدركنا أن الولايات المتحدة تغدو أقوى عندما يكون شركاؤها كذلك أقوياء، لذلك فإننا ملتزمون بطرح منظومة قيم أفضل عالمياً لمساعدة البلدان على حل المشكلات الملحة التي لا يمكن لأي بلد أن يحلها بمفرده. وأدركنا أن واشنطن لم تعد قادرة على تحمل عناء نهج غير منضبط في استخدام القوة العسكرية، حتى عندما حشدنا جهوداً هائلة للدفاع عن أوكرانيا وكبح جماح العدوان الروسي. تدرك إدارة بايدن الحقائق الجديدة للقوة، ولهذا السبب سنترك أميركا في حالة أقوى مما وجدناها عليها.
الجبهة الداخلية
في أعقاب الحرب الباردة، قللت الولايات المتحدة من أهمية الاستثمار في تعزيز الحيوية الاقتصادية داخلياً. في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، اتبعت البلاد سياسة الاستثمار العام الجريء، بما في ذلك في البحث والتطوير وفي القطاعات الاستراتيجية. وقد كانت هذه الاستراتيجية بمثابة حاضنة لنجاحها الاقتصادي، ولكن مع مرور الوقت ابتعدت الولايات المتحدة عنها، فقد صممت حكومة الولايات المتحدة سياسات تجارية وقانوناً ضريبياً لم يول التركيز الكافي لكل من العمال الأميركيين ولكوكب الأرض. وفي خضم “نهاية التاريخ”، أكد العديد من المراقبين أنه من شأن المنافسات الجيوسياسية أن تفسح المجال أمام التكامل الاقتصادي، وكان معظمهم يعتقدون أن البلدان الجديدة التي تدخل النظام الاقتصادي الدولي ستعدل سياساتها لتلعب وفقاً للقواعد. ونتيجة لذلك، بات الاقتصاد الأميركي يعاني نقاط ضعف مثيرة للقلق. فبينما ازدهر الاقتصاد على المستوى الكلي، تم تقويض مجتمعات بأكملها إذ تخلت الولايات المتحدة عن زمام المبادرة في قطاعات التصنيع الحيوية. وفشلت في ضخ الاستثمارات اللازمة في بنيتها التحتية، وبذلك تلقت الطبقة الوسطى ضربة قاصمة.
منح الرئيس بايدن الأولوية للاستثمار في الابتكار والقوة الصناعية في الداخل، فيما بات يطلق عليه اسم “بايدنومكس Bidenomics”. ولا تهدف هذه الاستثمارات العامة إلى اختيار الفائزين والخاسرين أو إنهاء العولمة، بيد أنها تعمل على تمكين الاستثمار الخاص بدلاً من الحلول محله، كما تعزز قدرة الولايات المتحدة على تحقيق النمو الشامل، وبناء القدرة على المرونة، وحماية الأمن القومي.
وقد أطلقت إدارة بايدن ممكنات الاستثمارات الجديدة الأوسع نطاقاً منذ عقود، بما في ذلك قانون الاستثمار والوظائف في البنى التحتية الذي وافق عليه الحزبان، وقانون الرقائق والعلوم (قانون تحفيز صناعة أشباه الموصلات)، وقانون الحد من التضخم. وإننا نعكف على تعزيز الإنجازات الجديدة في الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمومية، والتكنولوجيا الحيوية، والطاقة النظيفة، وأشباه الموصلات، بالتوازي مع حماية مزايا الولايات المتحدة وأمنها من خلال ضوابط التصدير الجديدة وقواعد الاستثمار، بالشراكة مع الحلفاء. أحدثت هذه السياسات نقلة نوعية.
وتضاعفت الاستثمارات الواسعة النطاق في إنتاج أشباه الموصلات والطاقة النظيفة بمقدار 20 ضعفاً منذ العام 2019. وتشير تقديراتنا الآن إلى أن الاستثمارات العامة والخاصة في هذه القطاعات ستبلغ بمجملها 3.5 تريليون دولار على مدى العقد المقبل. وقد تضاعف الإنفاق على البنى التحتية في مجال التصنيع منذ نهاية العام 2021.
في العقود الأخيرة، أضحت سلاسل التوريد الخاصة بالمعادن الحيوية في الولايات المتحدة تعتمد إلى حد كبير على الأسواق الخارجية العصية على التنبؤ، التي تهيمن الصين على بعض منها. ولهذا السبب تعمل الإدارة على بناء سلاسل توريد مرنة ودائمة مع الشركاء والحلفاء في القطاعات الحيوية، بما في ذلك أشباه الموصلات، والطب والتكنولوجيا الحيوية، والمعادن الحيوية، والبطاريات، بحيث لا تكون الولايات المتحدة عرضة لقيود الأسعار وتقلبات العرض. يشمل نهجنا المعادن التي تعد مهمة لجميع جوانب الأمن القومي، مع الأخذ في الحسبان أن قطاعات الاتصالات والطاقة والحوسبة لا تقل أهمية عن قطاع الدفاع التقليدي. وقد كان من شأن كل هذا وضع الولايات المتحدة في موقف يخولها من استيعاب محاولات القوى الخارجية على نحو أفضل للحد من وصول أميركا إلى المدخلات الحيوية.
عندما تولت هذه الإدارة السلطة، وجدنا أنه رغم أن الجيش الأميركي هو الأقوى في العالم فإن قاعدته الصناعية عانت سلسلة من نقاط الضعف التي لم تتم معالجتها. وبعد سنوات من شح الاستثمار، وهرم القوى العاملة، وتعطل سلسلة التوريد، باتت قطاعات الدفاع المهمة أضعف وأقل ديناميكية. تعكف إدارة بايدن على إعادة بناء تلك القطاعات، وتفعل كل شيء بدءاً من الاستثمار في القاعدة الصناعية للغواصات وانتهاء بإنتاج ذخائر أكثر حيوية حتى تتمكن الولايات المتحدة من صنع ما هو ضروري للحفاظ على قوتها الرادعة في المناطق التنافسية. نستثمر في الردع النووي الأميركي لضمان استمرار فعاليته بينما يقوم المنافسون ببناء ترساناتهم، مع الإشارة إلى الانفتاح على المفاوضات المستقبلية للحد من الأسلحة إذا كان المنافسون مهتمين بذلك، كما أننا نعمل بجهود متضافرة مع المختبرات والشركات الأكثر ابتكاراً لضمان استفادة القدرات التقليدية المتفوقة للولايات المتحدة من أحدث التقنيات.
قد تختلف الإدارات المستقبلية عن إدارتنا في تفاصيل كيفية تسخير مصادر القوة الوطنية الداخلية. يعد هذا الموضوع مشروعاً للنقاش، بيد أنه في ظل عالم أكثر تنافسية، ليس ثمة أي شك في ضرورة قيام واشنطن بكسر الحاجز بين السياسة الداخلية والخارجية، وأن الاستثمارات العامة الكبرى تشكل عنصراً أساسياً في السياسة الخارجية. وقد فعل ذلك الرئيس دوايت أيزنهاور إبان خمسينيات القرن الـ20. وإننا بصدد فعل ذلك مرة أخرى اليوم، ولكن بالشراكة مع القطاع الخاص، وبالتنسيق مع الحلفاء، ومع التركيز على التقنيات المتطورة اليوم.
يداً واحدة الآن
كانت تحالفات الولايات المتحدة وشراكاتها مع الديمقراطيات الأخرى أعظم ميزة دولية تتسم بها، فقد ساعدوا على خلق عالم أكثر حرية واستقراراً، كما أسهموا في ردع العدوان أو درئه. وكانوا يقصدون أن واشنطن لن تضطر البتة إلى تحقيق ذلك بمفردها، لكن هذه التحالفات بنيت لعصر مختلف. وفي السنوات الأخيرة، لم تستغل الولايات المتحدة هذه الفرص بالقدر الكافي، أو حتى تعمل على تقويضها.
كان الرئيس بايدن واضحاً منذ لحظة وصوله إلى سدة الحكم في شأن الأهمية التي يوليها للتحالفات الأميركية، ولا سيما في ضوء تشكيك سلفه فيها، لكنه أدرك أنه حتى أولئك الذين دعموا هذه التحالفات على مدى العقود الثلاثة الماضية غالباً ما غضوا الطرف عن الحاجة إلى تحديثها من أجل المنافسة في عصر الترابط المتبادل.
وبناء على ذلك، عززنا هذه التحالفات والشراكات بطرق مادية تعمل على تحسين الموقع الاستراتيجي للولايات المتحدة وقدرتها على التعامل مع التحديات المشتركة. على سبيل المثال، حشدنا تحالفاً عالمياً من البلدان لدعم أوكرانيا في دفاعها عن نفسها ضد حرب مجحفة، فضلاً عن فرض الكلف على روسيا، فقد توسع الناتو ليشمل فنلندا، وسرعان ما حذت السويد حذوها، وهما بلدان تاريخيان من بلدان عدم الانحياز، كما أعاد الناتو ترتيب أوراقه على جبهته الشرقية، ونشر القدرة على مكافحة الهجمات السيبرانية ضد أعضائه، ناهيك عن الاستثمار في دفاعاته الجوية والصاروخية، كما شرعت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في تعزيز التعاون بشكل كبير في مجالات الاقتصاد، والطاقة، والتكنولوجيا، والأمن القومي.
نخطو خطوات مماثلة في آسيا. ففي شهر آب (أغسطس)، عقدنا قمة تاريخية في كامب ديفيد كان من شأنها تعزيز عصر جديد من التعاون الثلاثي بين الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية، في حين ارتقت بالتحالفات الثنائية بين الولايات المتحدة وتلك البلدان إلى آفاق جديدة. وفي مواجهة البرامج النووية والصاروخية الخطرة وغير المشروعة لكوريا الشمالية، نعمل على ضمان أن يكون الردع الموسع للولايات المتحدة أكثر فاعلية من أي وقت مضى حتى تظل المنطقة تحظى بالسلام والاستقرار. ولذلك، أبرمنا إعلان واشنطن مع كوريا الجنوبية، وهو السبب الكامن وراء تعزيزنا مناقشات الردع الثلاثية الموسعة مع اليابان كذلك.
قمنا من خلال اتفاق “أوكوس”؛ الشراكة الأمنية الثلاثية بين الولايات المتحدة وأستراليا والمملكة المتحدة، بدمج القواعد الصناعية الدفاعية للبلدان الثلاثة لإنتاج غواصات مسلحة تقليدياً تعمل بالطاقة النووية، وزيادة التعاون في مجال القدرات المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي، والمنصات المستقلة، والحرب الإلكترونية، كما أن الوصول إلى مواقع جديدة من خلال اتفاق التعاون الدفاعي مع الفيليبين يعزز الموقف الاستراتيجي للولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
وفي أيلول (سبتمبر)، سافر الرئيس بايدن إلى هانوي ليعلن أن الولايات المتحدة وفيتنام ستعززان علاقاتهما إلى مستوى شراكة استراتيجية شاملة. وقد أطلقت المجموعة الرباعية، التي تضم الولايات المتحدة وأستراليا والهند واليابان، العنان لأطوار جديدة من التعاون الإقليمي في مجالات التكنولوجيا والمناخ والصحة والأمن البحري. ونستثمر كذلك في شراكة القرن الـ21 بين الولايات المتحدة والهند، على سبيل المثال، من خلال “المبادرة الأميركية الهندية في شأن التقنيات الحرجة والناشئة”. ومن خلال “الإطار الاقتصادي من أجل الازدهار لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ”، نمضي قدماً لتعميق العلاقات التجارية والتفاوض على اتفاقات هي الأولى من نوعها في شأن مرونة سلسلة التوريد، واقتصاد الطاقة النظيفة، ومكافحة الفساد والتعاون الضريبي مع 13 شريكاً من أطياف مختلفة في المنطقة.
تعمل الإدارة على تعزيز الشراكات الأميركية خارج آسيا وعبر الروابط الإقليمية التقليدية. وفي كانون الأول (ديسمبر) الماضي، قدمت الولايات المتحدة، في أول قمة جمعت قادة الولايات المتحدة وأفريقيا منذ العام 2014، سلسلة من الالتزامات التاريخية، بما في ذلك دعم عضوية الاتحاد الأفريقي في مجموعة الـ20 وتوقيع مذكرة تفاهم مع أمانة منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية، في جهد من شأنه أن يخلق سوقاً مشتركة على مستوى القارة يضم 1.3 مليار نسمة و3.4 تريليون دولار. وفي وقت سابق من العام 2022، حشدنا الجهود للتشمير عن ساعد الجد في نصف الكرة الغربي بخصوص الهجرة من خلال إعلان لوس أنجليس في شأن الهجرة والحماية وأطلقنا “شراكة الأميركتين من أجل الرخاء الاقتصادي”، وهي مبادرة تهدف إلى دفع التعافي الاقتصادي في نصف الكرة الغربي. وشكلنا تحالفاً جديداً يعرف باسم مجموعة “آي2 يو2” مع الهند وإسرائيل والولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة. وهو تحالف يجمع بين جنوب آسيا والشرق الأوسط والولايات المتحدة من خلال مبادرات مشتركة في شأن المياه والطاقة والنقل والفضاء والصحة والأمن الغذائي. وفي أيلول (سبتمبر) من هذا العام، انضمت الولايات المتحدة إلى 31 بلداً أخرى في مختلف أنحاء أميركا الشمالية، وأميركا الجنوبية، وأفريقيا، وأوروبا لإنشاء “الشراكة من أجل التعاون الأطلسي” للاستثمار في العلوم والتكنولوجيا، وتعزيز الاستخدام المستدام للمحيطات، ووقف التغير المناخي، كما صغنا شراكة إلكترونية عالمية جديدة، تضم 47 بلداً ومنظمة دولية لمواجهة آفة الفدية.
وهذه ليست جهوداً معزولة، بل جزء من شبكة تعاون ذاتية التعزيز. يعد أقرب شركاء الولايات المتحدة عبارة عن ديمقراطيات زميلة، إذ سنعمل بحزم للدفاع عن الديمقراطية في جميع أنحاء العالم. أرست “القمة من أجل الديمقراطية”، التي دعا إليها الرئيس لأول مرة في العام 2021، قواعد مؤسسية لترسيخ الديمقراطية وتعزيز الحكم ومكافحة الفساد وحقوق الإنسان، ومكنت الديمقراطيات الزميلة من امتلاك الأجندة إلى جانب واشنطن، لكن مجموعة البلدان التي تعاضد رؤية واشنطن لعالم حر ومنفتح ومزدهر وآمن هي مجموعة واسعة وقوية، إذ تشمل التي تتمتع بأنظمة سياسية متنوعة. وسوف نتعاون مع أي بلد مستعد للدفاع عن مبادئ ميثاق الأمم المتحدة بالتوازي حتى مع دعمنا الحكم الشفاف والخاضع للمساءلة ودعم الإصلاحيين الديمقراطيين والمدافعين عن حقوق الإنسان.
نعكف أيضاً على تنمية الروابط بين تحالفات الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وأوروبا. تعد الولايات المتحدة أقوى في كل منطقة منهما بسبب تحالفاتها في المنطقة الأخرى، وذلك بأن الحلفاء في منطقة المحيطين الهندي والهادئ هم من أشد المؤيدين لأوكرانيا، في حين يساعد الحلفاء في أوروبا الولايات المتحدة على دعم السلام والاستقرار عبر مضيق تايوان، كما تسهم جهود الرئيس لتعزيز التحالفات أيضاً في أكبر قدر من تقاسم الأعباء منذ عقود، إذ تطلب الولايات المتحدة من حلفائها أن يكثفوا جهودهم في حين لا تتوانى هي بدورها عن بذل أضعاف ذلك. فثمة ما يناهز 20 بلداً من بلدان الناتو الماضية على المسار الصحيح لتحقيق هدف إنفاق اثنين في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع في العام 2024، بالمقارنة مع سبعة بلدان فقط في العام 2022. وقد وعدت اليابان بمضاعفة موازنتها الدفاعية، وتشتري صواريخ توماهوك الأميركية الصنع، ما من شأنه تعزيز ردعها للمنافسين المسلحين نووياً في المنطقة. وفي إطار اتفاق “أوكوس”، تعكف أستراليا على القيام بأكبر استثمار فردي في القدرة الدفاعية في تاريخها بينما تستثمر أيضاً في القاعدة الصناعية الدفاعية الأميركية، في حين أصبحت ألمانيا ثالث أكبر مورد للأسلحة إلى أوكرانيا، وهي تعمل على تحرير نفسها من الحاجة إلى الطاقة الروسية.
صفقة أفضل
أظهرت السنة الأولى لجائحة “كوفيد 19” أنه في حال كانت الولايات المتحدة غير راغبة في تسلم زمام الجهود الرامية إلى حل المشكلات العالمية، فليس ثمة من سيتدخل ليضطلع بذلك العبء. ففي العام 2020، لم يكد يتفوه العديد من قادة العالم بكلمة حيال ذلك، في حين كافحت مجموعة السبع من أجل توحيد كلمتها عندما ضربت جائحة “كوفيد 19”. وبدلاً من التنسيق الوثيق، بذلت البلدان جهوداً متباينة زادت من خطورة الوباء أكثر مما كان يمكن أن يكون عليه. وكثيراً ما اعتقد الرئيس بايدن وفريقه أن لدى الولايات المتحدة دورا حاسما تضطلع به في تحفيز التعاون الدولي، سواء في الاقتصاد العالمي أو الصحة أو التنمية أو البيئة، لكن التجربة الصادمة للأزمة العالمية في ظل غياب القيادة العالمية أزالت الغشاوة عن رؤية الرئيس للعالم. فعندما أمعنا النظر في المجموعة المروعة من التحديات العالمية، أدركنا أننا لن نضطر إلى استعادة القيادة الأميركية فحسب، وإنما سيتعين علينا أيضاً الارتقاء بمستوى أدائنا وأن نقدم للعالم، ولا سيما في الجنوب العالمي، منظومة قيم أفضل.
قسم كبير من العالم غير مبال بالمنافسات الجيوسياسية، فمعظم البلدان تريد أن تعرف أن لديها شركاء يمكنهم مساعدتها في معالجة المشكلات التي تواجهها، والتي يبدو بعضها مصيرياً. وهذه البلدان لا تشتكي الهيمنة الأميركية الزائدة عن اللزوم، بل على العكس تشتكي شحها. صحيح أنهم يقولون نحن ندرك أخطار التقرب من القوى الاستبدادية الكبرى، لكن أين البديل؟ يعلم الرئيس بايدن هذا. إذ أضحت الولايات المتحدة الآن قادرة على المنافسة في بقاع كانت غائبة فيها في السابق. وفي تلك المناطق التي كانت تتمتع فيها بميزة تنافسية، أصبحت الآن تتسلم دفة القيادة بعزيمة ماضية وهدف جلي. وهي تفعل ذلك بالشراكة مع بلدان أخرى، ونتوصل إلى كيفية حل المشكلات الملحة معاً.
تربعت الولايات المتحدة على عرش قيادتها الطويلة الأمد في مجال التنمية العالمية، وحافظت على استثماراتها الحيوية في الصحة والأمن الغذائي، وحافظت على مكانتها كبلد سباق في تقديم الإنسانية والمساعدات الغذائية الطارئة في وقت يشهد حاجة عالمية غير مسبوقة. وفي الوقت الراهن، يقود الرئيس بايدن جهداً عالمياً لرفع سقف الطموحات إلى مستويات أعلى. تعطي الولايات المتحدة الأولوية لدفع عجلة التقدم نحو أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة.
ولا تفتأ تعمل على توسيع نطاق بنوك التنمية المتعددة الأطراف، وتعبئة القطاع الخاص، ناهيك بمساعدة البلدان على إطلاق العنان لرأس المال المحلي. وكحجر زاوية في هذا الجهد، تعمل الإدارة على تحديث البنك الدولي بحيث يتسنى له معالجة التحديات الآنية الملحة بالسرعة الكافية وعلى نطاق واسع، ونحن نعمل مع الشركاء لزيادة تمويل البنك بشكل كبير، بما في ذلك البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، كما نمارس ضغوطاً من أجل إيجاد حلول لمساعدة البلدان الضعيفة على معالجة الديون غير المستدامة بسرعة وشفافية، فضلاً عن تحرير مواردها للاستثمار في مستقبلها بدلاً من تسديد أقساط الديون المرهقة.
في السنوات الأخيرة، تصدرت مبادرة الحزام والطريق الصينية المشهد، وتخلفت الولايات المتحدة في الاستثمار على نطاق واسع في البنى التحتية في البلدان النامية. والآن، تعمل الولايات المتحدة على حشد رؤوس أموال بمئات مليارات الدولارات من خلال “شراكة مجموعة السبع للبنية التحتية العالمية والاستثمار” لدعم البنى التحتية المادية والرقمية والطاقة النظيفة والصحة في جميع أنحاء البلدان النامية.
تسلمت الولايات المتحدة دفة القيادة في مجال الصحة العالمية. وتعكف على الاستثمار أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الأوبئة، مثل فيروس نقص المناعة البشري/ الإيدز والسل والملاريا، باعتبارها تهديدات للصحة العامة بحلول العام 2030. وقد تبرعت بما يناهز 700 مليون جرعة لقاح ضد جائحة “كوفيد 19” لأكثر من 115 بلداً وما يقارب نصف جميع صناديق الاستجابة العالمية للوباء، في حين أنها تظل متيقظة حيال التهديدات الناشئة، كما تساعد 50 بلداً على الاستعداد لحالة الطوارئ الصحية المقبلة والوقاية منها والاستجابة لها. ولعله من المرجح أن معظم الناس لم يسمعوا عن حالات تفشي مرض “فيروس ماربورغ” أو “الإيبولا” في الآونة الأخيرة، لأننا تعلمنا الدروس من وباء “الإيبولا” في غرب أفريقيا العام 2014 واستجبنا قبل أن ينتشر المرض في شرق ووسط وغرب أفريقيا.