الليبيون ضحايا التهجير الداخلي.. ملف يحركه برد الشتاء

الليبيون ضحايا التهجير الداخلي.. ملف يحركه برد الشتاء

لا يزال عشرات الآلاف من الليبيين يعيشون في مخيمات النزوح بعيدا عن مساكنهم وممتلكاتهم الخاصة في مدنهم وقراهم الأصلية التي اضطروا لمغادرتها منذ سنوات تحت التهديد المسلح من قبل الميليشيات والجماعات الخارجة على القانون.

وبات ضحايا التهجير القسري في حاجة إلى برد الشتاء لإعادة تداول قضيتهم، حيث تتفاقم معاناة المقيمين في مخيمات النزوح مع نزول الأمطار وتدفق السيول وتراجع درجات الحرارة إلى مستويات قياسية، وخاصة لدى الأطفال والنساء والمسنين، إذ يجد أولئك الليبيون أنفسهم في حاجة إلى المساعدات وكأنهم في أكثر بلدان العالم فقرا، في حين أن بلادهم تمتلك ثروات طائلة، وهي قادرة على حل مشاكلهم الإنسانية والاجتماعية وتمكينهم من السكن اللائق والحياة الكريمة.

وقالت المؤسسة الليبية لحقوق الإنسان إن الليبيين تعرضوا طوال أكثر من 12 عاما إلى موجات نزوح كبيرة وتهجير قسري جماعي استهدفت السكان المدنيين في مناطق عدة من بينها تاورغاء والمشاشية وغدامس وسرت وأوباري وسبها والرياينة الغربية والقواليش وترهونة وصبراتة وبنغازي ودرنة ومرزق، مما أدّى بمرور الوقت إلى صعوبة العودة بالنسبة إلى الكثير من النازحين والمهجرين ممن أجبروا على بدء تجارب حياتية مختلفة في مدن أخرى.

موجات النزوح انطلقت منذ عام 2011 الذي شهد إجبار نصف مليون مواطن على مغادرة مناطقهم نتيجة الصراع المسلح

وأوضحت المؤسسة أن موجات النزوح انطلقت منذ عام 2011 الذي شهد إجبار نصف مليون مواطن على مغادرة مناطقهم نتيجة الصراع المسلح الذي أسفر عن تهجير سكان مدن تاورغاء والمشاشية والقواليش جميعا، فضلاً عن الفترة الممتدة بين عامي 2014 و2016 التي أجبر خلالها الليبيون على النزوح والتهجير من مدن مختلفة جرّاء الأحداث الدامية التي اشتعلت في مدن بنغازي وطرابلس وسرت.

وبحسب تقرير لمكتب المفوض السامي لمنظمة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان فإنه منذ العام 2011 لا تزال ليبيا تعاني من الاضطراب السياسي والاشتباكات بين المجموعات المسلحة المتنازعة، وتصاعدت حدته في عام 2014 مما أدى إلى نشوب نزاعات مسلحة في بنغازي وطرابلس ومصراتة ومدن أخرى، الأمر الذي أدى إلى تدمير الممتلكات وسقوط العديد من الضحايا في صفوف المدنيين وتسبب في موجات هائلة من النزوح. ووجد 400 ألف شخص (أي ما يعادل 6 – 7 في المئة من عدد سكان ليبيا) أنفسهم نازحين في بلادهم جراء تجدد أعمال العنف في عموم البلاد منذ سنة 2014 تباعاً، ولا يزال الكثير منهم يعانون من تبعات هذا النزوح. أضف إلى ذلك اضطرت معظم السفارات الأجنبية ومنظمات الأمم المتحدة ومنظمة الصليب الأحمر وغيرها من المنظمات الدولية لسحب موظفيها وإيقاف أعمالها في سنة 2014 نظراً إلى تدهور الأوضاع الأمنية. وبالنسبة إلى الأمم المتحدة، لا تزال حالة الإجلاء قائمة لم ترفع.

وبحسب المنظمة الدولية للهجرة ووزارة الدولة لشؤون النازحين والمهجرين وحقوق الإنسان فقد تمت تسوية أوضاع الكثير من النازحين بحيث انخفض عدد النازحين من 316 ألفا في أكتوبر 2020 (بعد انتهاء حرب طرابلس) إلى نحو 50 ألفاً، وذلك بحسب ما رصد ووثّق في منظومة تتبع حركة النزوح الداخلي.

وينحدر معظم النازحين والمهجرين المتبقين دون حلول جذرية من سكّان مدن ومناطق تاورغاء ومرزق وترهونة وصبراتة وسرت وطرابلس وغريان ومن المنتمين إلى إثنية الطوارق في غدامس، بالإضافة إلى مهجّري مدينة بنغازي، الذين أبعدوا عن مساكنهم خلال فترات زمنية مختلفة، حيث يقدر عددهم الإجمالي بنحو 134 الف نسمة.

وفي سبتمبر الماضي تسببت فيضانات السيول الناتجة عن إعصار «دانيال» في نزوح ما يقارب 42 ألفا من سكان مدينة درنة المنكوبة إنسانيا، وذلك بسبب الإهمال الحكومي الذي أدّى إلى انهيار سدي وادي درنة اللذين تمّ إهمالهما لسنوات طويلة، ما أسفر عن موت وفقدان عشرات الآلاف من سكان المدينة، وفق تقرير المنظمة الوطنية لحقوق الإنسان الذي أكد أن النازحين والمهجرين داخليا يعيشون ظروفا إنسانية جد قاسية بسبب الإهمال الحكومي من قبل حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة ووزارة الشؤون الاجتماعيّة، وقد تفاقمت معاناتهم منذ تعطيل وإلغاء وزارة الدولة لشؤون المهجرين وحقوق الإنسان من قبل حكومة الوحدة الوطنية، والتي كانت تقوم على إدارة ومتابعة شؤون النازحين والمهجرين من خلال العمل على التواصل والتنسيق مع كافة الجهات المعنية لحلحلة وتسوية وضعهم الانساني.

مخيمات النزوح

واعتبرت المنظمة أنّ قيام حكومة الوحدة الوطنية بإلغاء وزارة الدولة لشؤون المهجرين وحقوق الإنسان يدل على أنّها حكومة لا تعير أيّ اهتمام لهذا الملف الإنساني والوطني بالغ الأهمية، والذي كان من المفترض أن يكون في صدارة اهتمامات وأولويات الحكومة وفقا لمقررات ومخرجات مؤتمر جنيف والاتفاق السياسي الليبي، إلا أن الحكومة لم تضع معاناة النازحين والمهجرين في الاعتبار، كما لم يعمل المجلس الرئاسي الليبي على تسوية ومعالجة أوضاع النازحين والمهجرين وتوفير ضمانات العودة الآمنة إلى مدنهم ومناطقهم وجبر الضرر والتعويض عما لحق بممتلكاتهم من أضرارا بليغة، وذلك في أطار مشروع المصالحة الوطنية الشاملة.

ويرى مراقبون أن الآلاف من النازحين لا يزالون يقيمون في طرابلس ومصراتة والزاوية وبني وليد وصبراتة وبنغازي والبيضاء وطبرق وإجدابيا وسبها وغيرها من المدن في مختلف أرجاء البلاد، وقد اضطروا للنزوح بسبب حالة الفوضى وأعمال العنف التي شهدتها مدنهم وقراهم الأصلية أو بسبب الملاحقات التي تعرضوا لها سواء بسبب الهوية الاجتماعية أو الانتماءات السياسية والعقائدية على مدار السنوات الماضية.

وقد قدرت الأمم المتحدة أعداد النازحين داخلياً في ليبيا بحوالي 125 ألف شخص بنهاية عام 2022، وهو ما يمثل انخفاضا بنسبة 60 في المئة منذ اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في أكتوبر 2020. لكن الوضع لا يزال متأزما ويحتاج إلى حلول جذرية.

ضحايا التهجير القسري باتوا في حاجة إلى برد الشتاء لإعادة تداول قضيتهم، حيث تتفاقم معاناة المقيمين في مخيمات النزوح مع نزول الأمطار وتدفق السيول

وكان برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في ليبيا أعلن في يونيو الماضي أن 45 في المئة من الذين أُجبروا على ترك منازلهم في تاورغاء عادوا ليجدوا منازلهم والبنية التحتية في المواقع متضررة بشكل كبير، فإلى جانب الدمار، وجد العائدون أنه لا توجد وظائف ولا كهرباء ولا ماء ولا غاز ولا وسائل نقل ولا مرافق صحية وتعليمية، فيما واجه المجلس المحلي مهمة عاجلة تتمثّل في تقديم الخدمات الأساسية للسكان السابقين العائدين. وساعدهم برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في إعادة إنشاء الخدمات، وخلق فرص العمل والبدء في عملية خلق شعور بالانتماء للمجتمع مرة أخرى.

وفي أبريل العام 2022، وعدت وزيرة الشؤون الاجتماعية في «حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة» وفاء الكيلاني بحل المعوقات أمام عودة نازحي تاورغاء، مشيرة إلى تشكيلها لجنة لحصرهم في مخيمات العاصمة طرابلس، ومتابعة الأطفال من قبل فريق الدعم النفسي التابع للوزارة.

وفي أكتوبر الماضي أجبرت مجموعات مسلحة تابعة للقيادة العامة للجيش في شرق ليبيا 3500 نازح من نازحي تاورغاء، الذين كان قد تم تهجيرهم قسرا إلى مخيمات بنغازي، على إخلاء هذه المخيمات دون توفير بدائل أو أماكن أخرى يمكن الإيواء إليها. وإذ تعللت المجموعات المسلحة باحتمالية تضرر المخيمات جراء العاصفة “دانيال” وتبعاتها، ترفض حاليا عودة النازحين إلى المخيمات، رغم انتهاء العاصفة وعدم تضرر المخيمات بسببها.

وتشير أوساط ليبية إلى أن ملف النازحين في الداخل الليبي لا يزال عالقا إلى حين الإعلان الرسمي عن تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة وإلى حين بسط الدولة نفوذها على كافة مناطقها وحدودها، وكذلك إلى حين حل الميليشيات وجمع السلاح المنفلت، ليستطيع المهجرون قسريا العودة إلى ديارهم وطي صفحة الماضي نهائيا.

العرب