دور متزايد لليونان في شرق المتوسط

دور متزايد لليونان في شرق المتوسط

تتحدى اليونان الأزمة الاقتصادية والخلافات التي لطالما سببت توترات بينها وبين العديد من الدول، لتكون وجهة إستراتيجية تراهن عليها القوى الدولية في شرق المتوسط وتمنحها فرصة لعب دور أكبر يتوزع بين نقل العتاد والأسلحة وبين تأمين سلاسل الإمدادات.

أثينا – شهدت اليونان حروبا في شرقها وشمالها، واكتسبت أهمية جيواستراتيجية جديدة في شرق البحر المتوسط. وأصبحت البلاد نقطة انطلاق للتحالف الغربي وشريكا موثوقا به في المنطقة.

ويقول المحلل السياسي ألكمان غرانيتساس إن هذا الوضع الجديد يشكل قصة عودة رائعة لبلد جسّد نقطة الصفر في الأزمة المالية الأوروبية المعقدة قبل عقد، لعدة أسباب أهمها أن اليونان أصبحت إثر الغزو الروسي لأوكرانيا والحرب بين إسرائيل وغزة قناة لنقل الرجال والعتاد لصالح الولايات المتحدة وحلفاء الناتو الآخرين.

كما أنها تتحول إلى حلقة وصل حيوية في سلاسل إمدادات الطاقة في المنطقة. وتُعتبر بشكل متزايد ملاذا آمنا.

ويسيطر ملاك سفن يونانيون على حوالي 20 في المئة من السفن التجارية في العالم، من حيث القدرة الاستيعابية.

وتحركت أثينا لإيجاد حل للأزمة الأمنية التي نشأت منذ تدخل الحوثيين في الحرب المشتعلة بين إسرائيل وقطاع غزة، حيث نقل مسؤولون حكوميون الأربعاء عن وزير الشحن اليوناني، كريستوس ستيليانيدس، قوله إن “اليونان تجري محادثات مع مسؤولين من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ومستعدة للمشاركة في أي مبادرة دولية للأمن البحري”.

ويسلط الدور الناشئ الذي تلعبه اليونان الضوء على البنية الأمنية المتطورة في شرق البحر المتوسط، وقد تنامى بهدوء على مدى العقد الماضي.

والأربعاء نصحت اليونان السفن التجارية المبحرة في البحر الأحمر وخليج عدن بتجنب المياه اليمنية والاحتفاظ بالأطقم الضرورية فقط في غرف القيادة واتباع التحذيرات التي تصدرها السلطات البحرية لتجنب الهجمات في المنطقة.

وصدرت التحذيرات عن وزارة الشحن بعدما أجبرت هجمات شنتها جماعة الحوثي خلال الفترة الماضية شركات شحن رائدة على تغيير مسار سفنها إلى رأس الرجاء الصالح لتجنب قناة السويس، أقصر طريق للشحن بين أوروبا وآسيا.

وتمضي اليونان في تنفيذ برنامج لتحديث الدفاع بقيمة 13 مليار دولار، كما عملت على تعميق تعاونها العسكري مع كل من شركائها الإقليميين من خلال التدريبات المشتركة والتبادلات الثنائية.

وفي هذه الفترة الأمنية الحرجة في أكثر من منطقة عبر العالم أصبح ميناء ألكسندروبوليس في شمال اليونان مركزا لتزويد بلغاريا ورومانيا، العضوين في حلف شمال الأطلسي، في حين تدعم جزيرة كريت العمليات العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

وطورت أثينا منذ 2010 علاقات دفاعية وتجارية متعددة ومتداخلة مع قبرص وإسرائيل ومصر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. وعملت على تشديد تعاون أوثق مع الولايات المتحدة، التي كانت داعمة لهذا التحالف الجديد في شرق البحر المتوسط، تزامنا مع تدهور علاقات أميركا مع تركيا التي تعدّ حليفتها السابقة في المنطقة.

ويرتكز هذا التحالف الجديد على العلاقات التجارية والاستثمارية المتنامية، وخاصة في قطاع الطاقة. وفي ظل وجود احتياطات هائلة لمصادر الطاقة تبحث دول المنطقة ومنها اليونان عن أسواق كبيرة لبعض هذه الكميات، والسوق الأولى والأقوى لهذا الغرض هي السوق الأوروبية المتعطشة لتنويع مصادر الطاقة وتقليل الاعتماد على الغاز الروسي.

وقد وجدت اليونان وقبرص وإسرائيل ومصر مصلحة مشتركة في تطوير موارد الطاقة في شرق البحر المتوسط قبل فترة طويلة من الصراعات الحالية.

وكان اكتشاف احتياطيات الغاز الطبيعي الوفيرة (أولا في إسرائيل في 2009، ثم في قبرص ومصر) منطلق عصر جديد من التعاون بين الدول الأربع. وخدم هذا مقترح إنشاء خط أنابيب ​​لنقل الغاز عبر اليونان إلى أوروبا، ومن ثم إنشاء منتدى غاز شرق المتوسط.

وكانت الولايات المتحدة داعمة لتحالف الطاقة الرباعي. ثم سحبت دعمها لخط أنابيب شرق البحر المتوسط الذي يواجه بالفعل عقبات فنية ومالية. ولكنها لا تزال تدعم مشروعين متعاقبين، وتحديدا إثنين من كابلات نقل عالي الجهد تحت الماء لربط شبكة الكهرباء اليونانية مع قبرص وإسرائيل ومصر. وتبقى اليونان في جميع الحالات نقطة عبور لجلب الغاز الطبيعي أو الكهرباء من شرق المتوسط ​​إلى أوروبا.

وستعمل هذه المشاريع على استكمال دور اليونان الناشئ بصفتها مركزا للطاقة في جنوب شرق أوروبا. ويعمل خطا أنابيب جديدان للغاز الطبيعي ومنشأتان جديدتان للغاز الطبيعي المسال على تزويد جيران البلاد الشماليين بمصادر جديدة للإمدادات. كما انطلقت اليونان في تصدير فائض الطاقة من إنتاجها سريع النمو من الطاقة المتجددة إلى الدول المجاورة بما في ذلك بلغاريا وألبانيا ومقدونيا الشمالية.

وأدركت الإمارات الآفاق المتوقعة، ووقعت عددا من الاتفاقيات الثنائية مع اليونان في 2022 لتطوير مشاريع الغاز الطبيعي المسال والطاقة المتجددة. وأعلن البلدان عن مشروع تجريبي صغير في مؤتمر المناخ (كوب 28) الذي انعقد في دبي خلال الشهر الحالي.

كما تبرز علاقات تجارية متنامية بين اليونان والسعودية في مجموعة من القطاعات، بما في ذلك الطاقة. وتمتد لتشمل لوازم البناء والخدمات الهندسية والبيئية والأغذية والزراعة. ووقّعت اليونان خلال العام الماضي اتفاقا مع المملكة العربية السعودية لتطوير كابل بيانات عالي السرعة بقيمة 800 مليون يورو، وهو محور البيانات من الشرق إلى البحر المتوسط الذي سيساعد في ترسيخ أقدام اليونان كبوابة رقمية لأوروبا.

وتتوافد الشركات الإسرائيلية بأعداد متزايدة إلى اليونان. وركّزت الاستثمارات الأخيرة على قطاع الضيافة والتكنولوجيا وعلوم الحياة والدفاع.

وفي الوقت نفسه يتوجه عدد صغير ولكن متزايد من الصناديق الإسرائيلية والمواطنين الإسرائيليين لشراء العقارات بهدف الحصول على إقامة أو تأسيس منزل ثان في اليونان. واتضح ذلك خلال العام الماضي بين مجموعة من الإسرائيليين من الطبقتين المتوسطة والعليا الذين أزعجتهم التحولات السياسية في إسرائيل. ويقال إن الأعداد زادت بشكل حاد منذ بداية الحرب بين إسرائيل وغزة.

وكانت هذه اتجاهات اتبعها الأثرياء الأتراك واللبنانيون خلال السنوات الأخيرة، حيث رأوا في اليونان ملاذا يحمي من تردي الأوضاع في بلدانهم.

ويعتبر المحلل غرانيتساس أن دور اليونان الجديد بصفتها ركيزة في شرق المتوسط ​​يعتبر تحولا جذريا عما كانت عليه قبل عقد عندما كانت تتخبط في أزمتها المالية.

وعلى الصعيد المحلي، عاد اقتصاد البلاد البالغ حجمه 240 مليار دولار إلى مستويات ما قبل الأزمة، وأصبح من أسرع الاقتصادات نموا في منطقة اليورو.

واستمرت اليونان في تصدر قائمة مجلة “ذا إيكونوميست” كأحد أفضل اقتصادات الدول للعام الثاني على التوالي، متفوقة على اقتصادات كبيرة مثل الولايات المتحدة وألمانيا. وتشير التوقعات إلى أن الاقتصاد اليوناني سيشهد نموًا بنسبة 2.5 في المئة خلال العام الحالي و2 في المئة في العام المقبل، وفقًا للتقديرات الصادرة عن صندوق النقد الدولي.

وتحول الرأي العام على الصعيد السياسي نحو وسطية أكثر واقعية. ويتنامى تأييد واسع النطاق لسياسات الإصلاح التي تنتهجها حكومة “الديمقراطية الجديدة” الحالية، والتي أعيد انتخابها لولاية ثانية في يونيو الماضي.

وتجسّد مكانة اليونان الصاعدة رواية جديدة على الساحة الدولية. وتسعى الحكومة اليونانية حاليا للحصول على مقعد غير دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وستتعزز مكانة اليونان الجديدة في المنطقة إذا نجحت في تحقيق هذا الهدف.

العرب