تونس تراهن على إصلاح المؤسسات الحكومية بدل خصخصتها

تونس تراهن على إصلاح المؤسسات الحكومية بدل خصخصتها

يبدو أن السلطة في تونس بدأت في متابعة جدية لملف المؤسسات العمومية الحساس، نظرا لاضطلاعها بأدوار اجتماعية واقتصادية باتت مفقودة، وعمّقت صعوباتها ممارسات الفساد المستشري فيها، وهو ما دفع الرئيس قيس سعيد إلى التأكيد على إصلاحها وإعادة إحيائها من جديد.

تونس – كشفت الزيارات الفجئية المتواترة للرئيس التونسي قيس سعيد لعدد من المؤسسات العمومية في مختلف جهات البلاد، مراهنة جديّة من السلطة خصوصا بعد إجراءات الخامس والعشرين من يوليو 2021، لإصلاح المؤسسات الحكومية، عوض العمل على خصخصتها.

ويبدو أن قيس سعيد يدرك جيّدا حجم “الفساد” المستشري في تلك المؤسسات التي تراجع مردودها بوضوح، بعدما كانت قاطرة للاقتصاد التونسي ورافدا من روافد التنمية في البلاد إثر الاستقلال في العام 1956.

ويقود الرئيس التونسي جهودا حثيثة لمحاربة الفساد الذي ينخر المؤسسات العمومية عبر إغراقها بالتعيينات العشوائية، وكثيرا ما دعا إلى تطهيرها ممن يصفهم بـ”المندسين” وإنقاذ تلك المؤسسات من شبح الإفلاس، كما يعتبر أنها “مخترقة” من أشخاص يعمدون إلى تعطيلها وخصوصا ممن تم تعيينهم بعد 2011.

وأدى سعيد مساء الثلاثاء زيارة غير معلنة إلى مؤسسة “الفولاذ” بمدينة منزل بورقيبة من محافظة بنزرت (شمال).

وتطرّق سعيّد إلى الوضعية التي تمر بها هذه المؤسسة الوطنية، لاسيما المتصلة بالصعوبات المالية، كما اهتم بالسبل الكفيلة بإعادة الاستثمار في المؤسسة باعتبارها من المؤسسات الوطنية الكبرى ذات التاريخ العريق والتي أسهمت في تنمية الاقتصاد المحلي.

وأوردت وكالة الأنباء الرسمية في تونس أن الرئيس التونسي عاين، خلال جولة ميدانية، مختلف وحدات العمل والإنتاج بالمؤسسة على غرار قطاع الدرفلة وإنتاج العروق الفولاذية وحديد البناء.

وتأسس مصنع الفولاذ بمنزل بورقيبة سنة 1965، وهو يعد من أهم المصانع المنتجة للموارد المعدنية في تونس، من ناحية الصناعات المعدنية خاصة منها الفولاذ، من ذلك أن جل السكك الحديدية في تونس صنعت في هذا المصنع الذي يتولى كذلك صنع العديد من قطع الغيار التي تستعمل في عدة مجالات.

وشهد المصنع في العقدين الأخيرين تراجعا كبيرا بسبب العديد من الإشكاليات.

ورافق سعيد خلال هذه الزيارة والي بنزرت سمير عبداللاوي والرئيس المدير العام للمؤسسة سامي القبطني.

وطرح ملف المؤسسات العمومية على طاولات التفاوض سواء على الصعيد الداخلي بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل، أو على الصعيد الخارجي في علاقة بمشاورات تونس مع صندوق النقد الدولي الذي يطالب بخصخصة تلك المؤسسات كشرط أساسي لتمكين تونس بقرض قيمته 1.9 مليار دولار.

وقال أستاذ الاقتصاد رضا الشكندالي “هناك محاولة من السلطة للبحث عن مقاربة مختلفة لتناول ملف الإصلاحات الكبرى، مثلما فعلت قبل ذلك في ملف الدعم بفرض الإتوات”، مشيرا إلى أن “المؤسسات الحكومية عندما أحدثت في الستينات وأوائل السبعينات، كان الهدف منها تقديم خدمات وسلع تتماشى مع المقدرة الشرائية للمواطن، لأن المقدرة الشرائية كانت ضعيفة جدا، والمؤسسات تقدم خدمات وسلعا بأسعار تفاضلية مثل شركة الكهرباء والغاز (ستاغ) والخطوط التونسية (تونيسار)، كما كانت تضخّ أموالا كبيرة في ميزانية الدولة، لكنها اليوم أصبحت مفلسة وتقدم خدمات بأسعار باهظة”.

وأكّد في تصريح لـ”العرب” أنه “يوجد سوء تصرّف في إدارة المؤسسات من حيث التعيينات العديدة والامتيازات العالية تحت التأثير النقابي، وما تحدث عنه الرئيس سعيد من فساد يندرج في إطار إهدار المال العام في مجالات لم تنتفع بها المجموعة الوطنية”.

واعتبر الشكندالي أن “المؤسسات يوجد داخلها سوء تصرّف، كما يوجد من يسعى لإغراقها وإفلاسها حتى يتسنى له شراؤها بأسعار زهيدة، كما تجب مراجعة سلم الرواتب والامتيازات في القطاع العام”.

وشدّد على أن “المؤسسات الحكومية لما نقضي على ممارسات الفساد داخلها، ستعود إلى دورها الرئيسي وتضخ أموالا داخل ميزانية الدولة وتقدم خدمات بأسعار مناسبة”.

ويُعد ملف إصلاح المؤسسات العمومية ملفا حساسا لدى شرائح واسعة في تونس، وتعيش تلك المؤسسات أوضاعا صعبة بالتزامن مع أزمة حادة تعانيها تونس، للقطاع الخاص.

وتعاني عدة شركات عامة، بينها الخطوط الجوية التونسية وشركة فوسفات قفصة، سوء الإدارة وضعف الاستثمار فيها وارتفاع ديونها.

وتفاقمت أزمة شركة الخطوط التونسية خلال السنوات الماضية، إذ زاد مستوى تردي خدماتها، وتضم الشركة، التي لا يتجاوز أسطولها 28 طائرة من بينها 15 قيد التشغيل، حوالي ثمانية آلاف موظف، ونسبة العاملين مقارنة بعدد الطائرات لدى الشركة هي الأعلى بين شركات الطيران في العالم.

وأفاد المحلل السياسي نبيل الرابحي بأن “الرئيس سعيد من مناصري الدولة الاجتماعية التي هي عكس الدولة الليبرالية (المتوحشة)، وصرّح قبل ذلك بأن خصخصة المؤسسات خط أحمر، لأنها لعبت دورا اجتماعيا كبيرا”.

وقال لـ”العرب” إن “دور تلك المؤسسات نخره الفساد بالمحسوبية والتعيينات العشوائية حسب الولاءات السياسية، وبعض المؤسسات العمومية وصلت إلى حد لا يطاق من حيث التعيينات”.

وأضاف الرابحي “كل زيارات الرئيس سعيد فجئية، وأعتقد أنها تحمل رسالة أيضا إلى المسؤولين في الحكومة وبعض الوزراء، بأن تلك المؤسسات كانت قاطرة للاقتصاد التونسي في الستينات ووجب أن تستعيد نشاطها المعهود”.

واعتبر أن “منظومة 2011 جاءت للسلطة وتعاملت معها بمنطق الغنيمة بتعيينات العفو التشريعي العام، وأرادت إغراقها والتفريط فيها، حتى إن حجم ديون تلك المؤسسات بعد 2011، تضاعف 6 مرات وأصبحت تثقل كاهل الدولة”.

وأكد أن “الرئيس سعيد كان واضحا بعدم خصخصة تلك المؤسسات أو التفريط فيها على غرار شركة الخطوط الجوية التونسية أو مصنع التبغ، ويجب أن تعالج حالة بحالة مع الشركاء الاجتماعيين والاقتصاديين”.

وفي يونيو الماضي، أكد قيس سعيد خلال زيارة مفاجئة قام بها إلى شركة فوسفات قفصة (جنوب غرب) على تسوية الأوضاع العمالية والاجتماعية في منطقة الحوض المنجمي، بهدف إعادة الإنتاج إلى مستوياته السابقة وتفادي اللجوء إلى الاقتراض من الخارج، في ظل تفاقم الأزمة المالية والاقتصادية للبلاد.

وعجز إنتاج شركة فوسفات قفصة المتخصصة في استخراج الفوسفات وتحويله وتصديره، منذ 2011 عن بلوغ مستويات الإنتاج لعام 2010، التي كانت في حدود 8.2 مليون طن، ولم تتجاوز كمية الإنتاج منذ ذلك التاريخ إلى حدود 2022 أربعة ملايين طن سنويا.

العرب