بعد سلسلة تصريحات لوزراء ونواب من اليمين الإسرائيلي تدل على مدى الفرحة والزهو باغتيال صالح العاروري، أصدر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، تعليمات صارمة ترمي إلى كبت الفرحة، وتطلب من جميع المسؤولين أن يصمتوا، وأرسل الناطقين باسمه للتنصل من المسؤولية الصريحة عن هذه العملية، التي يُحتمَل أن تندرج في إطار جرائم الحرب وفقاً لقوانين محكمة لاهاي، بل سرّب أحد مساعديه خبراً يقول إن «إسرائيل ليست وحدها المعنية باغتيال العاروري»، ويذكّر بأن الولايات المتحدة أعلنت قبل سنوات عدة أنها تطلب رأسه وخصَّصت جائزة بقيمة 5 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عن مكانه، وهو الأمر الذي دفع واشنطن على ما يبدو إلى تسريب معلومات تؤكد أن إسرائيل هي التي نفّذت الاغتيال وأنها لم تبلغ الولايات المتحدة بشأنها إلا في وقت تنفيذ العملية، لذلك، فإن على إسرائيل أن تتحمل وحدها مسؤولية هذا الاغتيال وتبعاته.
وما من شك في أن هناك تبعات كثيرة لهذه العملية. فإلى جانب الفرحة العارمة التي سادت وطغت على تل أبيب، بدأت تطرح تساؤلات عمّا إذا كان هذا الاغتيال مغامرة محسوبة أم أنه مقامرة، يمكنها أن تقود إلى شل المفاوضات حول تبادل الأسرى، وكسر القوالب مع «حزب الله» اللبناني، وتوسيع الحرب إلى نطاق حرب إقليمية تهدد الأمن العالمي، كما تطرح سؤالاً آخر حول دور رئيس الوزراء، نتنياهو، في القرار، وهل نبع هذا الدور من «المصلحة الأمنية» و«ضرورات الحرب» التي يحددها الجيش وبقية الأجهزة الأمنية، أم نبع من رغبته في إطالة الحرب لأنه بذلك يطيل عمر حكومته؟
الغالبية المؤيدة للاغتيال ترى أن «قواعد اللعب» تغيرت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بهجوم «حماس» الناجح عسكرياً على إسرائيل، والذي وجّه ضربة قاسية إلى هيبتها وشكَّل زلزالاً مهيناً لجيشها ومخابراتها ومكانتهما العالمية، وجعلها تخرج عن طورها في الرد بهجوم مدمّر على أهل غزة، وأن القوالب كُسرت مع «حزب الله» عندما اختار أن ينضم إلى الحرب، وإن كان قد فعل ذلك بمنسوب منخفض يدل على عدم رغبة في حرب واسعة وشاملة.
لكنّ الحرب على غزة طالت، واتضح أنها لا تُسفر عن نتائج يمكن للجيش الإسرائيلي أن يعدّها مكاسب عسكرية. فقد احتل شمال القطاع كله، وظلت جيوب المقاومة تقضم قواته من الخلف، وسيطر على مقرات قيادية كثيرة لحركة «حماس» وغيرها من الفصائل، لكنّ مقاتليها لم ينكسروا، وواصلوا تنفيذ عمليات نوعية، وأوقعوا خسائر كبيرة في صفوف الجيش الإسرائيلي.
بالطبع، الجيش الإسرائيلي وجّه ضربات قاسية إلى حركة «حماس» وقواتها العسكرية، واغتال عدداً غير قليل من قادتها الميدانيين، وحتى السياسيين، في القطاع، لكنه لم يسجل إنجازاً حقيقياً يستطيع عرضه للجمهور في إسرائيل ولنظرائه في جيوش العالم عموماً، والغرب خصوصاً، على أنه «صورة نصر». وفي هذا الوقت، هدد القادة السياسيون والعسكريون مرّات عدة باغتيال قادة «حماس» في غزة وفي الخارج، واختار نتنياهو نفسه تهديد العاروري بالاسم، في 23 ديسمبر (كانون الأول)، وتحدث آخرون عن اغتيالهم «أينما كانوا، في غزة، أو لبنان، أو سوريا، أو تركيا، أو في قطر».
لكن المفترض أن التصريحات شيء والحسابات الاستراتيجية شيء آخر، أو هكذا اعتقد العاروري، على الأقل، لأن سهولة اغتياله كانت صادمة حتى للإسرائيليين؛ فهم يفهمون أن قادة «حماس» في قطر يتجولون تقريباً بلا حراسة في الدوحة، إذ إن قطر تعد وسيطاً أساسياً في المفاوضات بين إسرائيل و«حماس»، وليس من الحكمة اغتيالهم على أرضها. أما تركيا فقد هددت إسرائيل مباشرةً إذا أقدمت على اغتيال قادة «حماس»، وليس من الحكمة الدخول في تجربة مع الرئيس رجب طيب إردوغان. وفي سوريا، لا يوجد حضور حقيقي لـ«حماس». وأما في لبنان، فهناك حسابات أكثر تعقيداً.
صحيفة «يديعوت أحرونوت» قالت (الأربعاء)، إنه في مثل هذه الأيام قبل أربع سنوات، اكتشفت المخابرات الإسرائيلية أن قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني، موجود في بيروت، وأبلغت بذلك المخابرات الأميركية. لكنّ عملية اغتياله لم تُنفَّذ هناك، وانتظروا يوماً آخر، حتى انتقل إلى العراق حيث جرى اغتياله. وقد تفادوا اغتياله في لبنان كي يتفادوا رداً من «حزب الله» ضد إسرائيل. فلماذا اختاروا اغتيال العاروري في لبنان؟ هل زال ما يسمى «الردع»؟ ولماذا قرروا في إسرائيل شد الحبل حتى آخر رمق؟ ألم تعد إسرائيل تتحسب من حرب موسعة؟ وإذا كانت مصلحة نتنياهو تقتضي إطالة الحرب لأغراض شخصية وحزبية، فهل الجيش الإسرائيلي قبل أن يكون أداة حزبية لخدمته؟ وإذا كان يبحث عن صورة نصر، فهل تستحق هذه الصورة المغامرة، التي قد تتحول إلى مقامرة، احتمالات الخسارة فيها أكبر من احتمالات الربح؟
الجواب كما يبدو إيجابي على جميع الأسئلة. فهو يريد الصورة بأي ثمن، حتى لا يخرج من الحرب فيما العالم يتفرج على مئات، وربما آلاف الأسرى الفلسطينيين يغادرون سجونهم وهم يرفعون شارة النصر، وبينهم أسرى ثقيلو الوزن. لا بل إن الجيش لا يتردد طويلاً في إظهار رغبته في مزيد من الاغتيالات. وكما قال مسؤول أمنى سابق كبير، فإن «اغتيال العاروري أفضل صورة نصر يمكن أن تنتهي بها الحرب. الاغتيال في قلب العاصمة بيروت، بل في معقل حزب الله، يُحسّن صورة الجيش والمخابرات على السواء في نظر الجمهور الإسرائيلي وفي نظر جيوش العالم. لقد أثبتنا أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية باتت يقظة، واستعادت قدراتها العالية في الحصول على معلومات استخبارية دقيقة في الوقت المناسب، وبيّنت أن عيوننا عادت لتكون مفتوحة جيداً، وأن يدنا طويلة، ونستطيع الوصول إلى قلب الضاحية في بيروت، وأن لدينا أسلحة متطورة تنفّذ عملية جراحية عميقة في مكان مأهول من دون إحداث أذى كبير لمنطقة كبيرة، وأن (حزب الله) لم يعد رادعاً لنا، وبإمكاننا أن نتحداه، ليس فقط في الجنوب اللبناني، بل في عقر داره».
واللافت أن التقديرات الإسرائيلية تقول إن الاحتمالات بأن يمر اغتيال العاروري بلا رد جدي أكبر من احتمالات رد يشعل المنطقة بحرب واسعة. وحسب مسؤولين تكلموا إلى معلق الشؤون الأمنية في «واي نت»، رون بن يشاي، فإن «النتيجة الفورية لاغتيال العاروري ستكون خلق شعور بالمطاردة لدى القيادات السياسية لـ(حماس) الموجودة في قطر، وبينهم رئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية، الذي كان العاروري نائباً له، وموسى أبو مرزوق، الذي كان العاروري قد حلّ محله في المنصب، وشخصيات أخرى في قيادة الحركة ممن يوجدون خارج غزة». وقد نشر الناطق بلسان الجيش قائمة بأسماء هؤلاء القادة، وبينهم خالد مشعل، وغازي حمد، وأسامة حمدان، وخليل الحية وغيرهم.
ويقول بن يشاي: «يحيى السنوار لا يتأسف كثيراً على اغتيال العاروري، الذي كان خصماً سياسياً مريراً له، ونافسه على قيادة الحركة. ولكن الاغتيال سيؤثر على مدى استعداد (حماس) لإبرام صفقة تبادل أسرى، وربما يجعل قيادة (حماس) في قطر تتوجه إلى مصر للضغط على السنوار كي ينفّذ صفقة كهذه، على أن يكون أحد شروطها منح القيادات الحماسية حصانة من الاغتيالات الإسرائيلية. وبند كهذا يتجاوب أيضاً مع مصلحة السنوار في الحصول على حصانة. وقد ردت (حماس) على الاغتيال بتجميد المفاوضات على صفقة تبادل، لكن في إسرائيل لا يتأثرون بذلك، بل يقدرون أن اغتيال العاروري سيساعد في نهاية المطاف على التقدم في المفاوضات بسبب ما ينطوي عليه من ضغط عسكري على (حماس)».
لكنّ هذا لا يجعل إسرائيل تستخفّ تماماً بالاحتمالات الأخرى. لذلك رأينا جيشها يرفع من درجة الاستعداد والتأهب في كل وسائل الردع. وهناك استعداد لإحداث تغييرات في الجبهة الداخلية لمجابهة ضربة يقررها «حزب الله»، رداً على الاغتيال.
وفي الضفة الغربية، واصلت القوات الإسرائيلية مداهماتها في منطقة طولكرم ونابلس والخليل، لاعتقادها أن خلايا تعمل في هذه البلدات وفي مخيمات اللاجئين القريبة منها وفي مخيمات أخرى، تستعدّ لتنفيذ عمليات انتحارية في المدن الإسرائيلية والمستوطنات. وانتشرت قوات كبيرة من الشرطة على مداخل البلدات الإسرائيلية في منطقة المركز وعلى طول حدود الجدار العازل، وكذلك في المدن الكبرى، تل أبيب والقدس وحيفا. وقام «الشاباك» بتعزيز قواته لحماية السفارات والقنصليات الإسرائيلية في الخارج، وكذلك المؤسسات اليهودية الدينية، بالتنسيق مع أجهزة الأمن المحلية في كل دولة، تحسباً لاغتيالات، ووجّه تعليمات مشدَّدة إلى الدبلوماسيين الإسرائيليين بألّا يتحركوا علناً في الدول التي يخدمون فيها إلا للاحتياجات الملحّة.