على الرغم من الأخبار المُرحّب بها بشأن السويد، إلّا أنه لن يتم ذكر تركيا القديمة، لكن تحوّل أردوغان الواضح إلى نمط بناء الإرث سيمنح واشنطن فرصاً للاستفادة من نفوذه في الخارج.
في 23 كانون الثاني/ يناير، صادق البرلمان التركي على انضمام السويد إلى “منظمة حلف شمال الأطلسي” (“الناتو”)، مما فتح الطريق أمام عضوية ستوكهولم في الحلف في النهاية. وتُولي إدارة بايدن أهمية كبيرة لتوسع “الناتو” في ظل العدوان الروسي على أوكرانيا، وفي حين أن محاولة ضم السويد إلى الحلف ما زالت تنتظر تصويت البرلمان المجري، فإن قرار تركيا يُعد خطوة كبيرة إلى الأمام.
وفي السابق، أرجأت أنقرة لمدة عامين تقريباً إعطاء الضوء الأخضر لطلب ستوكهولم بعد تقديمه في أيار/مايو 2022، وأصبحت القضية رمزاً لتعميق الخلل في العلاقات الأمريكية التركية. لكن عملية التصويت التي أجراها البرلمان التركي هذا الأسبوع تَعِد بإنهاء تلك الحقبة، مما يمنح كلاً من واشنطن وأنقرة فرصةً لرسم مسار جديد على الرغم من استمرار بعض الخلافات الأخرى.
تركيا الجديدة كقوة وسطى في عهد أردوغان
على مدى العقدين الماضيين، شهدت تركيا ما يعادل حدوث ثورة سياسية في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي قام ببناء “تركيا جديدة” قائمة على قيادته القوية والسعي الشعبي العلني إلى تمتع البلاد بمكانة القوة العظمى الإقليمية.
وكان هذا التحول واضحاً في مجال السياسة الخارجية أيضاً. ففي حين أن المؤسس الحديث للبلاد مصطفى كمال أتاتورك وأتباعه في القرن العشرين روّجوا للتمتع بهوية أوروبية حصرية تتطلع إلى الداخل، سعى أردوغان إلى الاضطلاع بدورٍ أكثر تطلعاً إلى الخارج، عبر اعتناق الهويات المتعددة لتركيا كالهوية الأوروبية والشرق أوسطية والأوراسية وغيرها من الهويات. ومن الناحية العملية، يعني ذلك الترويج لتركيا كقوة قائمة بذاتها تعطي علناً الأولوية لمصالحها الخاصة على تحالفاتها الرسمية وغير الرسمية.
إن القضية السويدية هي مثال على ذلك. فعندما كان المسؤولون الأتراك يوضحون سبب تعطيل طلب انضمام السويد إلى حلف “الناتو”، كانوا يشيرون باستمرار إلى موقف ستوكهولم المتساهل تجاه “حزب العمال الكردستاني”، عدو أنقرة منذ فترة طويلة والجماعة التي صنفتها السلطات الأمريكية وحلف “الناتو” على قائمة الإرهاب. وفي الوقت نفسه، حافظ أردوغان على علاقة سياسية وثيقة مع فلاديمير بوتين وعملَ على تعميق العلاقات الاقتصادية بين تركيا وروسيا، وهذه الأخيرة عارضت بشكل قاطع توسع “الناتو”. ومع ذلك، لم يوسع أردوغان هذه الخطوات عبر تشكيل محور استراتيجي مع روسيا، بل فضّل بدلاً من ذلك تحقيق التوازن بين موسكو وواشنطن (وبشكل محفوف بالمخاطر في بعض الأحيان). حتى أن القوات التركية ووكلائها سجلوا نجاحات عسكرية مختلفة ضد الجهات المتحالفة مع روسيا في سوريا وليبيا وجنوب القوقاز، مما جعل البلاد تبرز كقوة متوسطة ذات مصداقية قادرة على تحقيق نتائج تفوق التوقعات، لا سيما في إطار المنافسة الاستراتيجية المستمرة منذ قرون مع روسيا.
ويقيناً، أن تركيا الجديدة ما زالت تعتبر نفسها جزءاً من الغرب. ولكن، خلافاً للقرن العشرين، لم تعد هذه الهوية حصرية أو ثنائية. وتتعامل أنقرة الآن بحرّية مع واشنطن وحلف “الناتو” وروسيا وأوروبا وإيران وممالك الخليج الغنية وغيرها من الجهات الفاعلة الإقليمية والعالمية، دون أن تشعر أنها مضطرة إلى اختيار شريك مفضل. ورغم أن تركيا كان لها ارتباط عاطفي عميق بأوروبا في القرن العشرين، إلّا أنها أصبحت في عهد أردوغان أكثر حباً لنفسها.
استخدام عرض السويد كوسيلة ضغط
عندما تقدمت ستوكهولم بطلب الانضمام إلى حلف “الناتو” في عام 2022، تبنت تركيا موقفاً حازماً لتحقيق سياستها، إذ أجبرت الحكومة السويدية على تشريع إجراءات جديدة لمكافحة الإرهاب تهدف استهداف“حزب العمال الكردستاني” وكيانات كردية أخرى، لا سيما شبكاتها المحلية المعنية بجمع التبرعات. وتفهّمت إدارة بايدن بعض هذه المخاوف التركية، لكنها لم ترغب في تأخير انضمام السويد إلى الحلف وسط تصاعد الأزمة الأوكرانية. لذلك، شجعت واشنطن المسؤولين الأتراك والسويديين على العمل معاً لمعالجة هذه القضايا على وجه السرعة.
ولكن في أنقرة، كانت النخب الأمنية على يقين من أن الولايات المتحدة ستقدّم تنازلات إذا استمرت المماطلة بشأن السويد. وعلى وجه التحديد، أرادت هذه النخب إنهاء الحظر الأمريكي الفعلي على مبيعات الأسلحة إلى تركيا، والذي كان مفروضاً منذ أن اشترت أنقرة الأنظمة الروسية للدفاع الصاروخي “إس-400” في عام 2017. كما كانت النخب الأمنية تأمل في إنهاء المعاملة الباردة من بايدن، وهو الرئيس الأمريكي الوحيد الذي لم يقم بدعوة أردوغان إلى البيت الأبيض خلال العقدين اللذين قضاهما الزعيم التركي في السلطة.
وحتى الآن، أثبتت التطورات أن هذه النخب على حق. فبعد أن صادقت تركيا بسرعة على انضمام فنلندا إلى حلف “الناتو”، علماً بأن هلسنكي تقدمت بطلب الانضمام إليه في الوقت نفسه مع السويد، أدركت واشنطن أنه قد يتم تأجيل انضمام ستوكهولم إلى أجلٍ غير مسمى، ووضعت استراتيجية للتودد إلى أنقرة. وعلى وجه الخصوص، أشارت الإدارة الأمريكية إلى أنه إذا صادقت تركيا على طلب السويد، سيعمل البيت الأبيض على رفع تقييد الكونغرس على طلب أنقرة منذ فترة طويلة بشراء أربعين طائرة مقاتلة من طراز “إف-16″، وتحديث تسع وسبعين طائرة في أسطولها الحالي. كما ألمح مسؤولون أمريكيون إلى أنه سيتم النظر في زيارة أردوغان لواشنطن.
الطريق أمام انضمام السويد
يشير التصويت البرلماني إلى أن طلب السويد أصبح الآن آلية بالقدر الذي يعني أنقرة (رغم أن المجر قد تحاول انتزاع تنازلات خاصة بها قبل الموافقة على الانضمام). وقد نشرت الحكومة النتيجة في الجريدة الرسمية التركية في 25 كانون الثاني/يناير، مما يشير إلى رغبتها في تأمين زيارة أردوغان إلى البيت الأبيض قريباً، ومن الأفضل أن يتم ذلك قبل الانتخابات المحلية التي ستجري في البلاد في 31 آذار/مارس. ومن المرجح أن إضفاء الطابع الرسمي على العملية بهذا الشكل هو الطريقة التي اعتمدتها أنقرة لتجنب السيناريو الذي يُنظر فيه إلى تَواصُل الولايات المتحدة مع أردوغان على أنه تدخل في الانتخابات المحلية التركية.
وبعد ذلك، ستحتاج أنقرة إلى إيداع الوثائق اللازمة (أي “وثيقة الانضمام”) في وزارة الخارجية الأمريكية للتحقق من موافقة تركيا على انضمام السويد، بموجب ميثاق “الناتو”. وستقوم الوزارة بعد ذلك بإخطار الكونغرس بأن الإدارة الأمريكية تنوي بيع طائرات جديدة من طراز “إف-16” ومعدات التحديث إلى تركيا. وفي الواقع، قد يحدث ذلك في وقتٍ مبكرٍ وربما في الأسبوع المقبل وفقاً لبعض التقارير. ومن الممكن بعد ذلك أن يتلقى أردوغان دعوة رسمية من البيت الأبيض يوجهها إليه الرئيس بايدن.
حالة قضية “قوات سوريا الديمقراطية”
أشارت قصة إخبارية حديثة إلى أن الحكومة الأمريكية قد تُراجع أيضاً سياستها تجاه “الوحدات السورية للدفاع عن الشعب الكردي” (“وحدات حماية الشعب”). فمنذ عام 2014، اعتمدت واشنطن على “وحدات حماية الشعب”، وهي الجماعة الرئيسية ضمن “قوات سوريا الديمقراطية”، لمحاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”. إلا أن “وحدات حماية الشعب” هي أحد فروع “حزب العمال الكردستاني”، لذلك اعترضت أنقرة على هذه الشراكة منذ البداية.
ومن وجهة نظر أنقرة، أدت هذه القضية إلى تفريغ العلاقات الثنائية منذ سنوات. وبالتالي، فإن مجرد اقتراح قيام واشنطن بإعادة النظر في سياستها تجاه “وحدات حماية الشعب” يمكن أن يمنح تركيا سبباً كافياً للدخول في حقبة جديدة من العلاقات مع الولايات المتحدة.
ملامح العلاقة الجديدة؟
على الرغم من احتمالات حدوث تغيير إيجابي، إلّا أن تحسين العلاقات الثنائية لا يعني أن العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا ستعود إلى وضعها الأمثل، ولا يعني أن أنقرة ستعود إلى كنف الولايات المتحدة. إن أفضل طريقة يمكن أن يتبعها المسؤولون الأمريكيون للتعامل مع تركيا الجديدة هي الاعتراف بأنها لن تتخلى عن الغرب، لكنها لن تنضم إلى محوره في الوقت نفسه. وعلى العكس من ذلك، إن تركيا في عهد أردوغان هي دولة متعددة الانحيازات تتخذ الموقف المريح لها حول أي قضية جيوسياسية، سواء كانت الحرب في أوكرانيا، أو الصراع في جنوب القوقاز، أو عدم الاستقرار في الشرق الأوسط. ويسمح هذا الموقف لأنقرة بالبقاء تحت الأضواء والاحتراز من أي جهة فاعلة تقريباً، حتى عندما تظل جزءاً من حلف “الناتو”. ففي أوكرانيا، على سبيل المثال، دعمت تركيا كييف عسكرياً خلال الحرب، بينما حافظت على العلاقات الاقتصادية مع روسيا.
بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية لعام 2023، لم يعد أردوغان يواجه أي تحديات داخلية كبيرة، وبالتالي تدخل مسيرته المهنية في مرحلة بناء الإرث. وبعد أن أحدث ثورة في سياسة البلاد وأعاد تشكيل هويتها الجيوسياسية، أصبح يريد الآن أن يترك وراءه إرثاً إيجابياً لتركيا (كدولة تتمتع بمكانة دولية جيدة) وله (كرجل دولة وليس سياسياً استقطابياً).
ويقدّم التحوّل الواضح الذي أحدثه أردوغان فرصةً للبيت الأبيض للتعاملمع تركيا الجديدة التي أنشأها، والاستفادة من نفوذه الإقليمي والعالمي في عصر اليوم الذي يتسم بتزايد المنافسة بين القوى العظمى. وفي كلتاالحالتين، يتعيّن على واشنطن أن تتقبّل حقيقة أن تركيا القديمة لن تعود إلى ما كانت عليه.
سونر چاغاپتاي
معهد واشنطن