لم يعد سراً وجود حرب موازية للحرب الإسرائيلية على غزة، وهي الحرب الخفية بين الأجهزة الاستخباراتية ووحدات العمليات الخاصة التابعة لكل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية من جهة، وتلك التي تخص إيران ومن يتبعها من الأذرع الميليشياوية الموزعة في أنحاء دول المنطقة، لا سيما في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
أما نتائج هذه الحرب الموازية فهي تظهر من حين إلى آخر في صيغة عمليات اغتيال تشمل القيادات العسكرية الخاصة بـ «محور المقاومة»، وهي عمليات غالباً ما يكون الرد عليها عبر الهجمات بالمسيرات والصواريخ التي تستهدف القواعد الأمريكية، وإقليم كردستان العراق بذريعة وجود للموساد الإسرائيلي هناك.
وكان من اللافت في الهجمات الصاروخية الإيرانية الأخيرة اتساع دائرتها، لتشمل منطقة إدلب في سوريا، وبلوجستان الباكستانية تحت شعار محاربة المتطرفين الإسلامويين، خاصة «داعش» الشمّاعة المخابراتية التي تستخدمها عند اللزوم مختلف الأجهزة الاستخباراتية في المنطقة لتسويغ عملياتها الخاصة، وهي العمليات التي لا تلتزم بأي شرعية وطنية أو أممية.
تتصاعد وتيرة هجمات المسيرات على القواعد الأمريكية، وترتفع نبرة التصريحات والتصريحات المضادة من الجانبين الإيراني والأمريكي؛ هذا إلى جانب جهود التهدئة، وأخبار الرسائل المتبادلة بين الطرفين المذكورين، التي ربما تستهدف العودة إلى التفاهمات التي كانت قبل عملية طوفان الأقصى، والحرب التي أعقبتها؛ وهي الحرب التي ما زالت مستمرة رغم كل جهود الوساطة، لا سيما من جانب كل من قطر ومصر؛ فضلاً عن الاتصالات مع الولايات المتحدة الأمريكية، وإسرائيل و«حماس»، وذلك في سبيل الوصول إلى توافقات الحد الأدنى على الأقل، لإيجاد مخرج اسعافي مقبول ضمن حدود الإمكان لما حصل، ويحصل، وهو الأمر الذي تسبّب حتى الآن في معاناة غير مسبوقة للفلسطينيين المدنيين، لا سيما الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى في غزة، وهي المعاناة التي تمثلت في أعداد كبيرة من الضحايا والجرحى؛ فضلاً عن اضطرار أكثر من 1.5 مليون إنسان إلى ترك منازلهم التي دُمرت غالبيتها، إلى جانب تدمير البنية التحتية والمشافي وكل ما يضمن أبسط الشروط لحياة كريمة مقبولة.
ومن الواضح أن النظام الإيراني يحاول بكل السبل، خاصة عبر تحريك أذرعه في المنطقة، واستثمار الأوضاع لصالح أجنداته الخاصة، وهي تشمل قضايا يود التوصل بشأنها إلى تفاهمات مع الغرب عموماً ومع الولايات المتحدة الأمريكية على وجه التحديد في ظل إدارة الديمقراطيين. وقد بلغ الأمر بالنظام المعني إلى التصرف بمنطق القوة العظمى القادرة على التحكّم بالممرات المائية الحيوية للتجارة العالمية، وتهديد صادرات الطاقة؛ هذا بالإضافة إلى القدرة على إلحاق الأذى بالدول العربية التي لم تخضع بعد للهيمنة الإيرانية، خاصة الخليجية منها، وتهديد مصر التي تتعرض لضغوطات من جهة انخفاض واردات قناة السويس، إلى جانب المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها إذا تمكن النظام الإيراني من التغلغل في السودان عبر استغلال ظروف التناحر الوجودي بين الجيش وقوات الدعم السريع.
كما أن الهجوم الأخير الذي تعرضت له القاعدة الأمريكية في برج 22 في شمال شرق الأردن بالمسيرة الإيرانية أصالة أو وكالة أحدث إرباكا واضحاً لكل من الأردن والولايات المتحدة، وجسّد رسالة مفادها أن إيران مستعدة لتغيير قواعد اللعبة وتوسيع دائرتها، وعدم الاكتفاء بإغراق الأردن، ومن خلالها المنطقة، بالمخدرات القادمة من منطق سيطرة سلطة آل الأسد و«حزب الله» في لبنان. كما أن الإعلان عن إرسال ثلاثة أقمار صناعية إيرانية إلى المدار في يوم واحد يندرج هو الآخر ضمن المراسيم الخاصة بتقمّص دور القوة العظمى، أو على الأقل القوة الأعظم إقليمياً.
وما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق هو أن ملامح التنافس الإيراني التركي سواء في العراق أم في سوريا لم تعد خافية، بل من الملاحظ أنه قد أصبح أكثر وضوحاً مع الأيام.
فالعراق مجتمعاً ودولة قد أصبح بالنسبة إلى إيران مجرد ساحة عمليات ومصدر ثروة، يتحكّم فيه النظام الإيراني عبر فصائل الحشد الشعبي العراقية الولائية التي تحصل على ميزانياتها من الخزينة العراقية، بينما تأتمر بأوامر الموجه الإيراني؛ كما يعتمد النظام الإيراني في هذا المجال على قوى كردية عراقية، وعلى واجهات حزب العمال الكردستاني التي تستخدمها ضد إقليم كردستان العراق، وتهدد بها حزب الديمقراطي الكردستاني ورئيسه مسعود بارزاني على وجه التخصيص الذي أصبح موضع توافق بين القوى العراقية الوطنية من مختلف المكونات المجتمعية سواء القومية منها أم الدينية والمذهبية؛ ومثل الأمر لا يستسيغه النظام الإيراني بأي شكل من الأشكال، وذلك لتناقض التوافقات الوطنية مع استراتيجيته المتبعة تجاه دول ومجتمعات المنطقة، وهي الاستراتيجية التي تقوم على خلخلة الدول والمجتمعات المعنية عبر التغلغل والتمدد فيها، والتحكّم بالقرارات السياسية، وتمزيق النسيج المجتمعي ليكون هشاً ضعيفاً لا حول له ولا قوة أمام الجهود الإيرانية المنظمة الرامية إلى ترتيب الأوضاع وهندستها وفق الرؤية والحسابات والمصالح الإيرانية القومية المغلّفة مذهبياً.
وفي أجواء التحوّلات التي طرأت على التفاهمات البراغماتية بين الأمريكان والإيرانيين التي كانت حتى الآن في الساحتين العراقية والسورية، ارتفعت وتيرة المطالبة بضرورة خروج القوات الأمريكية من العراق، وهي مطالبة تتمسك بها القوى السياسية العراقية التي تستمد قوتها من دعم الميليشيات الولائية، التي أصبحت جزءاً من المنظومة الدفاعية العراقية بضغط إيراني، وبفعل هرطقة قانونية، فرضت على مجلس النواب العراقي المغلوب على أمره، وبفتوى من المحكمة الدستورية التي لا تنطق بأي حكم يتعارض مع التوجيهات الإيرانية.
لا يحتاج المرء لفهم الأوضاع في العراق إلى قدرات تحليلية استثنائية، لأن الأوضاع المعنية ليست معقدة كما قد تبدو لأول وهلة. فالنظام الإيراني بعد أن تمكن من تفكيك، وإزاحة القوى السياسية السنية، واستطاع قمع القوى السياسية والأصوات الوطنية العراقية ضمن الوسط الشيعي، يحاول بشتى السبل تحقيق الأمر ذاته في الساحة الكردية، وتأتي المطالبة بالخروج الأمريكي لقطع الطريق أمام أي جهد يحول دون السيطرة الإيرانية الشاملة على العراق.
أما بالنسبة لموضوع التنافس مع تركيا فيبدو أنه في المدى المنظور ستكون هناك رغبة إيرانية في التوصل إلى تفاهمات وقتية تحت شعار: ضرورة المصلحة المشتركة في مواجهة الـ «خطر الكردي» المزعوم، هذا في حين أن تركيا تعرف جيداً أن حزب العمال الكردستاني بواجهاته المختلفة ضمن الساحتين العراقية والسورية، قد بات ومنذ زمن بعيد من بين الأدوات المعتمدة ضمن الاستراتيجية الإيرانية الخاصة بالعراق، وبالمنطقة على وجه العموم.
ونظراّ للتداخل الكبير بين الوضعين العراقي والسوري، لن يكون من المستغرب حصول تفاهمات أمريكية تركية أكثر متانة مقارنة بما كان عليه الحال قبل الموافقة الأمريكية الأخيرة على بيع تركيا طائرات ف 16 وقطع الغيار اللازمة لتحديث النماذج القديمة منها، وذلك في سياق الصفقة الخاصة بالموافقة التركية على انضمام السويد إلى حلف الناتو.
ولعل التسريبات التي كانت بشأن إمكانية خروج القوات الأمريكية من سوريا، والتكذيبات التي أعقبتها، والمناقشات الأمريكية الداخلية حول الاهتمامات والبدائل المحتملة في العراق وسوريا تندرج هي الأخرى في سياق الاحتمالات أو الخطط البديلة التي يمكن أن تُعتمد أمريكياً عبر تفاهمات مقبلة مع تركيا.
هل ستختار الولايات المتحدة الأمريكية الاعتماد على تركيا لترسيخ وجودها في منطقة الشرق الفرات، ريثما يتم التوصل إلى حل ما في الموضوع السوري؟ أم أنها ستلجأ إلى ترتيب صيغة ما من صيغ التفاهم بين سلطة بشار الأسد و«قسد»، وهي تعرف أكثر من غيرها أن الصلات بين الطرفين لم تنقطع في يوم من الأيام تحت شعار «محاربة داعش»، ولدعم هذا التفاهم ربما تستعين بتركيا نفسها عبر انفتاحها على بشار الأسد، وذلك وفق شروط خاصة بكل طرف؟
أم أنها ستحاول الاستمرار في جهود فك الارتباط بين واجهات حزب العمال الكردستاني في سوريا وهذا الأخير، لتصبح تلك الواجهات حالة سورية، مقابل أن تعود الحكومة التركية في الوقت ذاته مجدداً إلى طاولة المفاوضات في محاولة جدية للتوصل إلى حل سياسي سلمي عادل للقضية الكردية في تركيا، وذلك عبر حوارات معمقة شاملة مع القوى الكردية من سياسية وأكاديمية ومجتمعية، ومن ضمنها حزب العمال نفسه، إذا أراد بطبيعة الحال، وأبدى رغبته في الوصول إلى حل سياسي للقضية الكردية في تركيا ضمن إطار وحدة البلد والشعب، وبعيداً عن الحسابات الإقليمية، لا سيما الإيرانية منها؟
هذه التساؤلات والاحتمالات وغيرها الكثير تفرض نفسها حول الآتي المتوقع.
ولكن في جميع الأحوال يبقى للعامل الوطني، سواء في العراق أم في سوريا، دوره الوازن المؤثر إذا تم التوافق حول الأولويات الوطنية الخاصة بكل بلد. غير أن مثل هذا لن يتحقق في ظروف الصراعات البينية وتفاعلاتها مع التوترات الإقليمية الحادة المتصاعدة.
ولعله من نافلة القول هنا، تأكيد أهمية وجود موقف عربي داعم، خاصة من جانب الدول الخليجية، الكتلة العربية الأكثر تماسكاً وقدرة على التأثير في القرارات الإقليمية والدولية، والأكثر تأثراً، لأسباب عديدة، بما يحصل في كل من سوريا والعراق.