وضع قرار الحزب الديمقراطي الكردستاني بمقاطعة الانتخابات البرلمانية المقرّرة لشهر يونيو القادم، إقليم كردستان العراق على أعتاب أزمة سياسية عميقة، كون الحزب يشكّل إلى جانب غريمه حزب الاتحاد الوطني الكردستاني القوّة السياسية الأبرز في الإقليم والطرف الأكثر سيطرة على مقاليد السلطة في الحكومة المحليّة.
وتطرح عدم مشاركة الحزب الذي يقوده أفراد أسرة بارزاني شكوكا حول إمكانية إجراء الاستحقاق الانتخابي، الأمر الذي يهدّد بإيجاد أزمةِ شرعيةٍ في إقليم كردستان الذي تعتبر حكومته الحالية مؤقتة نظرا لعدم وجود سلطة تشريعية بعد أن كان القضاء العراقي قد رفض قرار البرلمان السابق بالتمديد في فترته النيابية لمدة سنة بدءا من أكتوبر 2022.
وجاء قرار الحزب في أجواء سياسية ملبدّة بالخلافات بين أربيل وبغداد، وأيضا بالمشاحنات الحزبية داخل الإقليم نفسه وخصوصا بين أكبر حزبين فيه، الحزب الديمقراطي وحزب الاتّحاد الوطني الكردستاني الأمر الذي ألحق ضررا فادحا بجهود المصالحة بينهما بعد أن كانت قد أحرزت تقدّما طفيفا.
ومثّلت مقاطعة الحزب الديمقراطي للانتخابات ردّة فعل على القرارات الأخيرة التي أصدرتها المحكمة الاتّحادية العراقية بشأن الانتخابات البرلمانية في الإقليم وقضت بتقليص عدد مقاعد برلمان الإقليم إلى مئة مقعد وذلك بإلغاء المقاعد الأحد عشر المخصصة للأقليات بموجب نظام الكوتا وتكليف الهيئة المستقلة للانتخابات بالإشراف على الاستحقاق الانتخابي بدلا من الهيئة المحلية التابعة لسلطات الإقليم، بالإضافة إلى تقسيم الإقليم انتخابيا إلى أربع دوائر، بدلا من دائرة واحدة.وأعلن الحزب الذي يتولى كذلك رئاسة حكومة الإقليم ويملك الغالبية في البرلمان المنتهية مدّته، في بيان “عدم الاشتراك في انتخاب يجري خلافا للقانون والدستور وتحت مظلة نظام انتخابي مفروض“.
وبرّر الحزب قراره بأنه لا يريد “إضفاء الشرعية على انتخاب غير دستوري وغير ديمقراطي”، منتقدا “جميع الخروقات الدستورية التي تمارس من قبل المحكمة الاتحادية ضد إقليم كردستان ومؤسساته الدستورية عامة“.
كما انتقد “التعديلات غير الدستورية لقانون انتخاب الدورة السادسة لبرلمان كردستان” لاسيما “في المواد الخاصة بتحديد نظام الدوائر الانتخابية وكوتا المكونات وعدد المقاعد والجهة المشرفة على الانتخاب والجهة المختصة بالبت في الطعون الانتخابية”.
ويضفي قرار الانسحاب مزيدا من التعقيد على انتخابات كانت معطّلة أصلا. وكانت أحزاب تمثّل الأقليات المسيحية والتركمانية أعلنت كذلك مقاطعتها للانتخابات خصوصا بسبب إلغاء الحصة الخاصة بها.
ويهيمن الحزبان الكبيران المتخاصمان، الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، على الحياة السياسية في الإقليم. وفيما يتولى الديمقراطي الكردستاني رئاسة الإقليم ورئاسة الحكومة فيه، كان جميع رؤساء جمهورية العراق منذ 2003 من الاتحاد الوطني. وكان الحزب الديمقراطي يمتلك في البرلمان الماضي الغالبية بخمسة وأربعين مقعدا يليه الاتحاد الوطني بواحد وعشرين مقعدا.
وهدّد الحزب الديمقراطي بتصعيد يتجاوز مجرّد عدم المشاركة في انتخابات برلمان الإقليم إلى الانسحاب من العملية السياسية في العراق برمّتها قائلا “نضع أطراف تحالف إدارة الدولة أمام مسؤولياتهم الوطنية في تطبيق الدستور وجميع بنود الاتفاق السياسي والإداري الخاصة بتشكيل الحكومة الحالية برئاسة محمد شياع السوداني، وبعكس” لا يمكننا الاستمرار في “العملية السياسية”.
ويشارك الحزب الديمقراطي الكردستاني في التحالف المذكور المشكّل من عدّة قوى سياسية كانت قد شكّلت ائتلافا موسعا تولّى تشكيل الحكومة العراقية الحالية ويتولى دعمها تحت قبة البرلمان.
وسبق لسلطات إقليم كردستان العراق التي يمتلك الحزب الديمقراطي نفوذا واسعا داخلها قد قطعت خطوة عملية باتجاه الانسحاب من المؤسسات الاتّحادية، حيث أعلن القاضي عبدالرحمان زيباري انسحابه من المحكمة الاتحادية العليا احتجاجا على قراراتها الأخيرة بشأن الإقليم. وأرجع أسباب انسحابه إلى ما لمسه من وجود نزعة في قرارات المحكمة نحو العودة إلى المركزية في الحكم والابتعاد عن النظام الاتحادي.
قرار الحزب جاء في أجواء سياسية ملبدّة بالخلافات بين أربيل وبغداد، وأيضا بالمشاحنات الحزبية داخل الإقليم نفسه وخصوصا بين أكبر حزبين
وقال في بيان “من منطلق شعوري بالمسؤولية أمام شعب كردستان بجميع مكوناته وأمام مؤسساته وكيانه الدستوري، فإنني أعلن انسحابي من عضوية المحكمة الاتحادية العليا بعد أن تعذر بفعل الأسباب التي ذكرتها تحقيق الأهداف التي شغلت المنصب من أجلها وفي تغيير اتجاهات المحكمة”. وعادت الحياة الحزبية في إقليم كردستان العراق إلى مربع التوتّر بعد فترة من الهدوء شهدت محاولات خجولة لإجراء مصالحات بين الحزبين الكبيرين في الإقليم.
ووسّعت قرارات المحكمة الاتحادية العراقية الهوة مجدّدا بين الحزب الديمقراطي وحزب الاتحاد الوطني الذي رحب بتلك القرارات التي شملت أيضا تغيير طريقة صرف رواتب موظفي الإقليم بتحويلها إلى مستحقيها مباشرة عن طريق مصارف عراقية، بدل إرسالها إلى حكومة الإقليم لتوزيعها عليهم.
ورفض بيشوا هوراماني المتحدث باسم حكومة إقليم كردستان ما سماه “سياسة التجويع والتمييز بين الموظفين وكل أشكال انتهاك الحقوق الدستورية للإق ليم”، مشيرا إلى أن رئيس وزراء الإقليم مسرور بارزاني يعمل جاهدا من أجل معالجة قضية رواتب موظفي الإقليم كافة.
وقال هوراماني في بيان إن “بداية مشكلة الرواتب في إقليم كردستان ظهرت بسبب قيام طرف أساسي ومكوّن لحكومة إقليم كردستان باللهاث وراء طرف معارض وتوجيه أعداء إقليم كردستان من أجل ممارسة الضغوط لقطع رواتب الموظفين”.
ويتضمّن الكلام الأخير اتّهاما مباشرا لحزب الاتحاد الوطني، الذي ردّ الإثنين بـ“توضيح للعامّة” صادر عن فريقه الوزاري وصف من خلاله ما يروج بشأن موقف الاتحاد من قضية الرواتب بأنه أخبار كاذبة ومغالطات بدوافع سياسية، وقال إنّ الحزب سلك “سياسة معتدلة مع حكومة إقليم كردستان والأحزاب العراقية وحافظ على التوازن من أجل الحفاظ على الاستقرار وتحقيق حقوق الشعب الكردي ولم يمنح بغداد موقفا محددا”. كما تضمن التوضيح اتهاما للحزب الديمقراطي بالتسبب في تأجيج “الخلاف وتدهور العلاقات بين إقليم كردستان وبغداد”، محذّرا من أن “يصبح الشعب الكردي ضحية لهذه السياسة الخاطئة”.
وصبّت قرارات المحكمة الاتحادية العراقية ضدّ المصلحة الحزبية للديمقراطي لكردستاني المتحكّم الرئيسي في زمام السلطة في إقليم كردستان العراق على اعتبار أنّه كان يستفيد انتخابيا من مقاعد الكوتا لزيادة حجم كتلته في البرلمان المحلّي، كما كانت تُوَجّه له اتهامات من قبل خصومه ومنافسيه السياسيين بالتلاعب بالموارد المالية للإقليم بما في ذلك الأموال التي يتمّ تحويلها من بغداد لتمويل رواتب الموظّفين.
قرار الانسحاب يضفي مزيدا من التعقيد على انتخابات كانت معطّلة أصلا. وكانت أحزاب تمثّل الأقليات المسيحية والتركمانية أعلنت كذلك مقاطعتها للانتخابات خصوصا بسبب إلغاء الحصة الخاصة بها
وعلى هذه الخلفية شنّ الحزب الديمقراطي الكردستاني حملة شرسة استهدفت في المقام الأول السلطات الاتّحادية العراقية بما في ذلك السلطة القضائية ومن ضمنها المحكمة الاتحادية التي اتهمها قادة من الحزب ومقرّبون منه ووسائل إعلام تابعة له بالتجاوز على الدستور وممارسة صلاحيات خارج اختصاصها. كما اتهم حكومة بغداد بالتضييق على الإقليم ماليا وتفجير أزمة اجتماعية فيه بعدم توفير أموال الرواتب.
لكنّ الحملة لم تستثن حزب الاتّحاد الوطني الذي طالته الاتهامات بالتعاون مع السلطات الاتحادية العراقية ضدّ مصلحة الإقليم على أساس أنّه المتسبب بالقرارات القضائية التي مست القانون الانتخابي ونظام صرف رواتب الموظّفين، باعتباره صاحب الدعاوى التي صدرت تلك القرارات بناء عليها. ومن جانبه شرع حزب الاتحاد في شنّ حملة مضادة لاتهامات الحزب الديمقراطي له. ووصف عضو الاتحاد شيرزاد صمد حزب بارزاني بالحزب المتسلط على الإقليم.
وقال في تصريحات صحفية إنّ “توطين رواتب الإقليم جاء بقرار من المحكمة الاتحادية العليا وهذا القرار ملزم تنفيذه على الجميع”، متّهما الحزب الديمقراطي بالسعي “للعودة إلى تصدير النفط إلى تركيا خارج نطاق السلطة الاتحادية”.
أما غياث السورجي الناشط في صفوف حزب الاتحاد فأرجع غضب الحزب الديمقراطي من قرارات المحكمة الاتحادية إلى كونه كان يستفيد من نظام الكوتا “من خلال القيام بترشيح أعضائه من المكونات الأخرى كي يحصل على مقاعد إضافية”.
كما شكّك السورجي في نزاهة مفوضية الانتخابات في الإقليم معتبرا أنّ هناك “الكثير من علامات الاستفهام من الكتل السياسية حول هذه المفوضية وهو أمر تداركته المحكمة الاتحادية وقالت كلمتها بخصوصه بحيث جعلت المفوضية في بغداد هي من تشرف على الانتخابات”.