استذكر السوريون هذا الأسبوع، كلٌّ بحسب موقفه السياسي، من موالاة ومعارضة، وما بينهما، كيف بدأت الثورة/ الأزمة، قبل 13 عاما، عندما قرّر جزءٌ معتبرٌ من السوريين السير على خطى إخوانهم في تونس ومصر وبقية دول ما أصبحت تعرف لاحقا بثورات الربيع العربي، طلباً للحرية والحياة الكريمة. ومن بين كل الثورات العربية، كانت سورية ربما المفاجأة الأكبر، بسبب الاعتقاد بوجود قوة ردع هائلة، قوامها العنف المفرط والقسوة المبالغ فيها، بناها النظام على مدى عقود لإحباط أي محاولة احتجاج مجتمعيّة، حتى التقديرات الاستخباراتية الأميركية التي تم تقديمها للرئيس باراك أوباما صيف عام 2010 تحدّثت عن احتمال تفجّر احتجاجات في أكثر من بلد عربي (مصر خصوصاً) بفعل عوامل داخلية تعتمل منذ سنوات، زادتها سوءاً الأزمة الاقتصادية العالمية التي ضربت عامي 2008-2009، لكنها لم تأت على ذكر سورية. مع ذلك، قامت الثورة في سورية، وكانت من أنبل الثورات وأكثرها استعداداً للبذل والتضحية، وإن كانت أقلّها لجهة النتائج المتحقّقة بسبب الفشل في انتاج رؤية وقيادة معبّرة عن توجهاتها، فضلا عن تماسك النواة الصلبة للنظام، وموقع سورية الاستراتيجي الذي دفع باتجاه تدخّلاتٍ خارجيةٍ اغتالت أحلام الثورة والثوار، وغير ذلك من أسبابٍ استوفيت بحثاً وتمحيصاً.
الآن بعد 13 عاماً، ما زال السوريون يختلفون حول توصيف الثورة/ الأزمة وأسبابها، والمسؤول عنها، وكيف انتقلت من حركة احتجاج سلمية الى حرب وكالةٍ بامتدادات إقليمية ودولية، مع ذلك تراهم يتفقون على توصيف الكارثة التي حلت بهم وببلادهم. وبوجود أكثر من نصف مليون قتيل، مليون مصاب، ونحو 150 ألف مفقود، فضلاً عن ستة ملايين نازح داخلي وستة ملايين لاجئ توزّعوا على قارّات العالم الخمس، فضلاً عن دمار نحو 27% من كل مساكن سورية بشكل جزئي أو كلي، وخسائر مادية تتراوح التقديرات بشأنها بين 400-1300 مليار دولار، ووجود خمسة جيوش أجنبية على الأرض السورية المقسّمة فعليا إلى “كانتونات”، لا يوجد سوري اليوم لم تطاوله الأزمة أو تؤثر في حياته.
إلى جانب الاتفاق على توصيف الكارثة، يتبلور إجماع سوري أكبر، متأخّر ربما، على أن سورية سقطت ضحية صراع الأمم، فلا حلفاء المعارضة، ولا حلفاء النظام، كان لديهم في أي مرحلة من مراحل الصراع أدنى اهتمام بمصالح السوريين أو تطلّعاتهم، بل كانوا، في حقيقة الأمر، يصفّون حساباتهم على الأرض السورية ويقاتلون بدماء السوريين وأرواحهم. أين مصلحة الشارع السوري المعارض اليوم مثلا في سياسات تركيا، سواء تجاه اللاجئين أو في مناطق سيطرتها شمالي سورية، والتي قد تنتهي بفصلها. أين مصلحة الشارع السوري الموالي، في ممارسات إيران التي تهدف الى تهشيم ما تبقّى من مؤسّسات الدولة السورية، والاستقلال بتصرّفاتها عنها؟ أين مصلحة النظام في انفلات المليشيات الإيرانية من عقالها وخروج مناطق عن سيطرته لصالحها؟ وماذا عن محاولات روسيا وإيران نهب ما تبقّى من ثروات سورية مقابل ديون فلكية مطلوب سدادها من شعبٍ لا يجد قوت يومه (أي أنه بات على السوريين تسديد فاتورة تدمير بلادهم).
الشعور المشترك لدى السوريين بهول الكارثة، والإحساس بالخديعة، تعزّزهما خيبة أمل كبرى بأداء المعارضة والنظام معا من جمهور كلٍّ منهما، فالمعارضة بلغت مرحلة من الضعف والهزال تكاد تستعصي على الوصف. لا يبدو النظام في حال أفضل، فهو يثبت كل يوم عجزه حتى عن تقديم الخبز لسكان المناطق التي يحكمها. شعارات النصر التي يردّدها منذ عام 2018 ما عادت تنطلي على جمهوره الذي يتلوّى جوعاً ومرضاً.
هذا يعني انه بدأ يتبلور بالفعل موقفٌ مشتركٌ بين السوريين على اختلافهم حول الحاجة للتحرّك من أجل إنقاذ وطن بات مهدّداً بالتفكّك والضياع. لكن هذه اللحظة المشتركة لن تدوم إلى ما لا نهاية، ما يتطلب تحرّكا سريعا للاستثمار فيها عبر خطاب وطني جامع وخطّة عمل واقعية هدفها تحقيق التغيير الديمقراطي المنشود، بناء على حلول وسط وتسويات، تأخُذنا بعيداً عن منطق الانتقام، والإقصاء، وأوهام القوة، والنصر. الوصول الى هذه النقطة يتطلّب اجتماع كلّ القوى والشخصيات السياسية السورية المستقلّة عن أيّ نفوذٍ أجنبي، والمستعدّة للقطع مع الماضي، والتأسيس لنظام سياسي ديمقراطي جديد.