من خلال إيجاد حلول ثابتة بالتنسيق مع الطرفين يمكن إصلاح العلاقات بين بغداد وأربيل ووضع حد لحالة الجمود والعداء التي تقف عائقا أمام التعاون بين الطرفين.
بغداد – أثارت القرارات الأخيرة التي اتخذتها المحكمة الاتحادية العراقية بشأن توطين رواتب موظفي إقليم كردستان في المصارف الاتحادية وإلغاء مقاعد الكوتا، وبالشكل الذي سيقضي بتقسيم إقليم كردستان إلى ما لا يقل عن أربع مناطق انتخابية، الجدل من جديد حول طبيعة العلاقات بين الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة إقليم كردستان في أربيل، وأفرزت الحاجة الى تنظيم عاجل وحاسم لمفاصل هذه العلاقات التي شهدت تجاذبات كثيرة ومتنوعة منذ إقرار الدستور العراقي عام 2005.
ورغم الطعن في شرعية هذه المحكمة وقراراتها، إلا أنها استندت في قراراتها المذكورة إلى الفقرات الدستورية التي حددت اختصاصات المحكمة وهي “ثانيا ورابعا وخامسا” من المادة 93 من الدستور العراقي، فضلاً عن المادة 94 التي حسمت قرارات المحكمة الاتحادية بأنها باتة وملزمة للسلطات كافة.
ويقول فوزي الزبيدي، وهو خبير في شؤون الشرق الأوسط والأمن القومي، في تقرير نشره معهد واشنطن “إنه بدراسة مجالات الصراع بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان يتبين أن هناك خلافاً آخذاً في الاتساع بين بغداد وأربيل، فمن خلال إيجاد حلول ثابتة بالتنسيق مع الطرفين يمكن إصلاح العلاقات ووضع حد لحالة الجمود والعداء التي تقف عائقا أمام التعاون بين الطرفين”.
تأخر تشريع قانون النفط والغاز: ينظم هذا القانون العلاقة بين بغداد وأربيل في إطار استخراج النفط والغاز في إقليم كردستان وتسويقه والاستثمار فيه، فكل طرف ينظر إلى عائدات النفط والغاز على أنها مورد اقتصادي حيوي، إذ تصر بغداد على أن تتولى شركة تسويق النفط الوطنية (سومو) تسويق نفط كردستان، بينما تعترض أربيل على ذلك، ويزعم البعض أن الدستور ذكر مصطلح “حقول النفط الحالية، أي الموجودة في عام 2005” بينما حقول كردستان ظهرت بعد عام 2005، وبالتالي فهي غير مشمولة بما أورده الدستور العراقي.
وعلاوة على ذلك لا تشكل الخلافات حول عائدات النفط والغاز سوى جانب واحد من الأزمة، حيث إن هناك أيضا خلافا حول إدارة حقول النفط في كردستان استكشافا واستخراجا وتسويقا، رغم أن المادة 112 من الدستور حددت مسؤولية مشتركة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم لاستثمار النفط في مناطق الإقليم، وتوزيع العائدات على جميع محافظات العراق، بما يتناسب مع التوزيع السكاني فيها.
مكمن الخلافات
من خلال إيجاد حلول ثابتة بالتنسيق مع الطرفين يمكن إصلاح العلاقات بين بغداد وأربيل ووضع حد لحالة الجمود والعداء التي تقف عائقا أمام التعاون بين الطرفين
تسعى الحكومة الاتحادية في بغداد إلى تواجد حقيقي وفعال في حقول النفط الكردستانية للوقوف على إنتاجها الحقيقي وخططها التسويقية، وهذا ما ترفضه حكومة الإقليم في أربيل معتبرة أنه مساس بحقوقها التي ضمنها الدستور.
وبناء على ذلك تبدو الحاجة إلى الاستئناس برأي لجنة دولية فنية متخصصة في شؤون الطاقة، لغرض وضع آليات استكشاف واستخراج النفط والغاز وتسويقهما بشكل مشترك بين بغداد وأربيل، ماسة جدا كحل وسط ومهني يرضي جميع الأطراف، وعلى ضوء توصيات اللجنة يصاغ قانون النفط والغاز في العراق.
تأخر تشريع قانون الجمارك: ينظم هذا القانون العمليات الجمركية ومواردها بين بغداد وأربيل في المنافذ الحدودية والمطارات التي تقع في إقليم كردستان، حيث حددت المادة 114 من الدستور الاختصاصات المشتركة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم في إدارة جمارك كردستان. وبالرغم من أن أربيل وافقت على تسليم بغداد نصف واردات الجمارك عام 2020 إلا أن المشكلة مازالت مستمرة في تجاذباتها بسبب غياب الثقة بين الطرفين، فالحل يكمن في تشكيل لجنة عراقية تضم خبراء دوليين من أجل دراسة نظم الجمارك في الدول الفيدرالية واستخلاص أنسبها لتنظيم الجمارك بين الحكومة الاتحادية والإقليم، ومن ثم تتولى لجنة قضائية عراقية تشريع قانون الجمارك بناء على مقررات اللجنة المذكورة.
توطين رواتب موظفي إقليم كردستان: شكلت قضية دفع رواتب موظفي القطاع العام في إقليم كردستان نقطة خلاف مستمرة بين الجانبين في السابق، حيث كانت الحكومة الاتحادية توفر القروض لحكومة إقليم كردستان وتعتمد عليها في توزيع الرواتب على موظفي الدولة. وفي السياق ذاته تشعر بغداد بأن هناك موظفين وهميين يستلمون رواتب من الحكومة الاتحادية، لذلك تطالب بتوطين رواتب موظفي الإقليم بهدف الكشف عن العدد الحقيقي للموظفين.
ونتيجة لذلك أشاد الكثير من موظفي الخدمة المدنية في إقليم كردستان العراق، الذين لم يتقاضوا رواتبهم منذ عدة أشهر، بقرارات المحكمة الفيدرالية، في حين رفضت حكومة الإقليم بشدة القرارات، معتبرة أنها انتهاك لحقوقها الدستورية وتجاوز للسلطة الاتحادية.
ويكمن أحد الخيارات الممكنة لمعالجة القضية في فتح مصرف اتحادي في أربيل تودع فيه جميع رواتب موظفي الإقليم، ومن ثم يقوم المصرف بتنزيل الرواتب في حسابات الموظفين بعد استلام إشعارات الاستمرار في العمل من قبل مؤسساتهم.
مشكلة المناطق المتنازع عليها: تُشكل المناطق المتنازع عليها شريطاً من الأراضي التي تمتد من الحدود العراقية – السورية إلى الحدود العراقية – الإيرانية، حيث يصل طول هذا الشريط إلى 1000 كيلومتر، وتبلغ مساحته 37 ألف كيلومتر مربع، كما تضم هذه المنطقة ثروات مهمة من النفط والغاز، وتحديداً في محافظة كركوك، وهو ما يعزز الخلافات بين بغداد وأربيل في محاولة فرض السيطرة على هذه المحافظة، إذ يحلم الأكراد بضمها إلى إقليمهم لتكون مصدر دعم اقتصادي للإقليم، في حين يشدد العديد من القيادات في بغداد على أن تكون كركوك جزءاً من جغرافية العراق لحرمان الأكراد من الهيمنة عليها، من أجل ضمان وحدة العراق.
على حكومة الإقليم أن تعي أن حل الخلافات مع بغداد يبدأ من حل الخلافات مع السليمانية أولا
ورغم أن المادة 140 من الدستور العراقي أكدت المسؤولية الملقاة على عاتق السلطة التنفيذية “لاتخاذ الخطوات اللازمة لاستكمال تنفيذ متطلبات المادة 58 من قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية بكل فقراتها”، يتعين على تلك السلطة “الإنجاز الكامل لمهام التطبيع، والإحصاء، وتنتهي باستفتاء في كركوك والمناطق الأخرى المتنازع عليها، لتحديد إرادة مواطنيها في مدة أقصاها الحادي والثلاثون من شهر كانون الأول (ديسمبر) لسنة 2007″، إلا أن ذلك لم يتم حتى الآن لاعتبارات سياسية وأمنية معقدة.
ولم يتسبب الخلاف حول محافظة كركوك الغنية بالنفط وغيرها من المناطق المتنازع عليها في إحداث صدع على المستوى الوطني فحسب، بل تسبب أيضا في نشوب خلافات بين الحزبين الرئيسيين في إقليم كردستان؛ وهما الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني اللذان يسعيان للسيطرة على كركوك بسبب مواردها وأهميتها الثقافية.
ومن ثم ينبغي أن تتم معالجة هذه القضية من خلال دراسة المناطق المتنازع عليها بشكل دقيق. وأحد الحلول المرجحة هو تقسيم المناطق المتنازع عليها إلى 8 مناطق لتجري فيها إحصائيات واستفتاءات منفصلة، ولتقرر كل منطقة انتماءها الجغرافي والإداري بأغلبية أبنائها، على أن يتم ذلك تحت إشراف الأمم المتحدة والمنظمات الدولية بسبب التعقيدات الجيوسياسية لهذا الملف.
الخلافات السياسية بين حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الحاكم في محافظة السليمانية والحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم في محافظات أربيل ودهوك: تعتبر المنافسة السياسية المبالغ فيها بين الطرفين على المناصب المحلية والاتحادية، وما يعرف بتداعيات أزمة كركوك عام 2017، إضافة إلى بوادر عدم ثقة بإدارة المنافذ الحدودية التي تقع في المجال الجغرافي لكلا الطرفين، وكذلك الإخفاق في توحيد قوات البيشمركة الكردية، والموقف من حزب العمال الكردستاني التركي، عوامل تؤثر سلباً على الموقف التفاوضي للإقليم مع الحكومة الاتحادية في بغداد، وبالشكل الذي قد يدفع الأخيرة إلى التعامل بشكل منفرد مع الطرفين، وتقسيم نسبة حصة الإقليم من الموازنة المالية بين الطرفين.
ولذلك على حكومة الإقليم أن تعي أن حل الخلافات مع بغداد يبدأ من حل الخلافات مع السليمانية أولا، لأن بغداد تريد الاستناد إلى موقف كردي موحد للبتّ في القضايا الخلافية مع حكومة الإقليم، كما يجب أن تدرك السليمانية أن إضعاف حكومة إقليم كردستان سيؤدي إلى نتائج وخيمة على الإقليم برمته.
الجانب المشرق هو أن حلول هذه القضايا ممكنة طالما كان هناك تركيز على رسم ملامح رؤية كردية مشتركة تحرص على ازدهار الإقليم، وبناء علاقة صحية مع بغداد ضمن عراق فيدرالي. وبإمكان لجنة خبراء عراقية مشتركة مع أعضاء من التحالف الدولي لمحاربة داعش، وأعضاء من الحزبين (الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني) وأعضاء من الأحزاب الكردية الأخرى، العمل على تسوية كل الخلافات البينية التي تسببت في الفرقة بينهم في الوقت الراهن.
المعوقات البيروقراطية الراسخة في الحكومة الفيدرالية: تزيد العوائق البيروقراطية المتغلغلة في الحكومة الاتحادية تعقيدات التعامل مع قضايا إقليم كردستان، فهناك عدة جهات اتحادية تقرر طبيعة العلاقة مع أربيل، وهي وزارة النفط ووزارة المالية والبنك المركزي ووزارة الدفاع ورئاسة الوزراء، وهو ما يتطلب من حكومة محمد شياع السوداني تشكيل هيئة اتحادية متخصصة لإدارة شؤون الأقاليم بالكامل وفق ما رسمه الدستور العراقي، وبما يضمن عدم خضوع الوزارات الاتحادية لاعتبارات سياسية أو شخصية في التعامل مع قضايا الإقليم.
إن عملية تنظيم العلاقات بين الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة إقليم كردستان في إطار دستوري تتطلب وقتا طويلا. ومع ذلك، فإن تحديد النقاط الأكثر أهمية في المفاوضات -فضلاً عن العوائق الداخلية التي تقف عائقا أمام هذه المفاوضات- يشكل خطوة أساسية في فهم مستقبل العلاقات بين بغداد وأربيل.
لكن التنازلات المشتركة بين جميع الأطراف، والمرونة في المفاوضات، وتقبل آراء لجان دولية فنية محترفة في القضايا الخلافية، ودور واشنطن في تقريب وجهات النظر، ودور المنظمات الدولية في تقديم الدعم الفني والتقني والمشورة لبغداد وأربيل، كلها تعتبر مسرعات لشركاء الوطن في بناء عراق اتحادي مزدهر.
وتتطلب هذه الخطوات إرادة سياسية والاعتراف بأن حل هذه القضايا -على الرغم من التنازلات التي تتطلبها- يمثل ضرورة ملحة. وبخلاف ذلك، فإن التقاعس عن معالجة هذه الملفات، إضافة إلى مدى قدرة أربيل وبغداد على حل قضاياهما الداخلية، ستكون له عواقب وخيمة على الجميع.
العرب