في ظلّ التقلبات المناخية التي أثرت بشكل ملحوظٍ على محاصيل الكاكاو في غرب أفريقيا، خصوصا في ساحل العاج -أكبر منتج عالمي للكاكاو- شهدت الأسعار ارتفاعا غير مسبوق، إذ تجاوز سعر الطن عتبة الـ10 آلاف دولار للمرة الأولى خلال أبريل/نيسان الجاري، مما يزيد من تكلفة المكون الرئيس للشوكولاتة عالميا، في حين سيبقى دخل القارة في المجمل محدودا.
وكان سعر الطن يبلغ حوالي 5640 دولارا في فبراير/شباط الماضي، ويُعزى ارتفاع السعر لعجز السوق للسنة الثالثة على التوالي بسبب المحاصيل السيئة، مما أعاد تسليط الضوء على دور الكاكاو في الاقتصادات الأفريقية، التي تعتمد بشكل كبير على صادراته.
ومع هذا الارتفاع في الأسعار، تُطرح إشكالية: هل ينبغي للدول الأفريقية التفكير في التحول نحو زراعة محاصيل أخرى، خاصة وأن زراعة الكاكاو والبن تعود إلى فترات استعمارية، وتزرع فقط بدورة واحدة في السنة، مقابل منتجات أخرى يمكن أن يكون لها أكثر من دورة زراعية سنويا؟
السياق التاريخي
مع بدايات القرن الـ20، شهدت زراعة الكاكاو تحولا جذريا مع انتقال مركز الإنتاج من أميركا الجنوبية في فنزويلا والبرازيل -حيث تم اكتشاف وتدجين شجرة الكاكاو- إلى غرب أفريقيا.
ومع بداية الحرب العالمية الأولى، دفعت بريطانيا بقوة نحو توسع زراعي كبير للكاكاو في مستعمراتها بغرب أفريقيا، غانا ونيجيريا، مما أسهم في تحول القارة الأفريقية إلى مركز عالمي لهذه المحاصيل.
وبعد نيلها الاستقلال، حافظت دول أفريقيا على المحاصيل التصديرية نفسها (القطن، القهوة، الكاكاو) التي كانت تُزرع خلال عهود الاستعمار.
كان الاستعمار يقوم بعملية إعمار وتحضير أراضي بكر، لم تكن تحت ملكية محددة للزراعة. وكان نضال الاستقلال في أفريقيا في جوهره يقوم على رفض هذه الرؤية الأوروبية.
وعقب انتصارهم، تجاهل الأفارقة ضرورة تعزيز الاستقلال عبر التطوير المستمر لأراضيهم. فإذا كان الاستعمار يعني سلب الأراضي، فإن الخطوة المنطقية للتحرر تشمل التوجه نحو الابتعاد عن الزراعات التي فرضها الاستعمار، والتي لا تخدم الاقتصادات الوطنية أو تسهم في حل أزمات الفقر والجوع.
مردودية أكبر
وفي السياق التفكير في زراعات بديلة، تحدث البروفيسور الكاميروني جان بول بوغالا، مدير “بوغالا أكاديمي” المتخصص في العلوم الزراعية، للجزيرة نت، عن المفارقة الأفريقية من خلال استشهاده بمثال الموز.
ويُعد الموز من أكثر الفواكه ربحية عالميا، والأكثر استهلاكا نظرا لإمكانية حصاده أسبوعيا وزراعته على مدار العام، حيث يصل المردود الفعلي من الموز العضوي في السنغال إلى 20 طنا للهكتار، ويزداد هذا الرقم إلى 60 طنا للهكتار في الدفيئات المغربية، وفقا لبيانات معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة بالمغرب.
فرغم مناخها المثالي، تسهم أفريقيا بأقل من 10% من الإنتاج العالمي للموز، تاركة الريادة للصين والهند. بالمقابل، يُنتج الكاكاو حوالي 300-400 كيلوغرام للهكتار، مما يشير إلى أن مزارعي الكاكاو بساحل العاج أقل ثراء بمقدار 200 مرة مقارنة بمزارعي الموز المغاربة.
الأمر نفسه بالنسبة للبن، إذ تبلغ الإنتاجية في منطقة جاجنوا بساحل العاج متوسط إنتاج ما يقارب 180 كيلوغراما للهكتار، مما يعكس تدني مستوى معيشة الفلاحين بما يصل إلى 333 مرة مقارنة بنظرائهم بالمغارب، وهذا الوضع شائع تقريبا في جميع أنحاء أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
ويوضح بوغالا قائلا “مثلا، عندما يواصل وزير الزراعة في دولة مثل الكاميرون تركيز جهوده سنويا على دعم زراعة الكاكاو، مستغلا بذلك أفضل أراضي البلاد، في حين تظل الدولة تعتمد على مساعدات من برنامج الأغذية العالمي لإطعام شعبها، وتستورد محاصيل أساسية مثل الأرز والبطاطا والطماطم والفاصوليا، فإن السياسات الزراعية التي لم تُحدد لها أهداف قابلة للقياس لتقليل الجوع بين السكان أو لرفع إثراء الفلاح، أو لتخفيض الاعتماد على الواردات، هي السبب”.
على غرار الكاميرون، دول أخرى مثل ساحل العاج وغانا، تتمتع بظروف مناخية مواتية لزراعة محاصيل متنوعة من تلك التي تستورد. ومع ذلك، تواجه هذه الدول تحديا في تقدير هذه الظروف بزراعة محاصيل ذات دورة واحدة فقط على مدار العام، بدلا من استغلال البيئة الزراعية المثالية لإنتاج مجموعة أوسع من المحاصيل.
أبعاد لا إنسانية
من جانبه، تجاوز الناشط السياسي الكاميروني وزعيم حزب الحركة الشعبية الجديدة، باندا كاني، خلال مقابلة مع الجزيرة نت، الإشكاليات الاستعمارية المرتبطة بزراعة الكاكاو والقهوة في أفريقيا، اللتين لا تستفيد منهما القارة استفادة مباشرة، نظرا لأن الشوكولاتة تُستهلك بشكل أساسي في أوروبا، وأشار إلى أضرار بيئية وإنسانية ناجمة عن زراعتهما.
وقال كاني إن تغير المناخ يشكل تحديا كبيرا لزراعة الكاكاو، خاصة مع توقعات بارتفاع درجات الحرارة وزيادة فترات الجفاف، مما يؤدي إلى تأثيرات سلبية على المزارعين، مما يفسر تدني العرض مؤخرا.
وأضاف أن إزالة الغابات تمثل مشكلة أخرى، مع التركيز على ساحل العاج التي فقدت 80% من غاباتها في 50 سنة الماضية، بما في ذلك فقدان 470 كيلومترا مربعا من الغابات في عام 2020 وحده.
ويؤكد كاني معارضته القوية لاستمرار زراعة الكاكاو في الكاميرون، موضحا أنه بالإضافة إلى القضايا البيئية، تبرز مشكلة استغلال العمالة القسرية للأطفال في مزارع الكاكاو.
وكانت كل من اليونيسيف ومنظمة مكافحة العبودية الدولية قد أعلنتا، في عام 1998، عن تجارة الأطفال للعمل في مزارع الكاكاو، وهي ممارسة مستمرة حتى الآن بحسب الناشط الكاميروني.
التنويع الزراعي
في ظل التحديات الزراعية بأفريقيا جنوب الصحراء، تبرز الحاجة الملحة لتطوير سياسات تشجّع على التنويع الزراعي، وتعالج استغلال عمالة الأطفال. مما يدعم الاستثمار في التكنولوجيا الزراعية المتقدمة وتحسين البنية التحتية للري، لزيادة الإنتاجية والاستدامة.
كما ينبغي تشجيع زراعة محاصيل بدورات نمو أقصر ومتطلبات عمل أقل للأطفال، مع توفير حوافز للمزارعين للتحول إلى محاصيل مغذية يمكن استهلاكها محليا، مما يساعد على تعزيز الأمن الغذائي وخفض الاعتماد على محاصيل التصدير الرئيسية مثل الكاكاو.
وفقا للبروفيسور بوغالا، يُعتبر تركيز أفريقيا على المحاصيل الاستعمارية مثل القهوة والكاكاو خطأ إستراتيجيا، خاصة من الناحية الاقتصادية، إذ لم تستطع أي أمة تحقيق الثراء بالاعتماد على هذا النمط من الإنتاج، من المادة الخام.
ويقول إن البرازيل نفسها، التي كانت تتصدر إنتاج القهوة عالميا، انتقلت إلى زراعة المواشي وتصدير اللحوم إلى الأسواق الأوروبية، وهو نشاط أكثر ربحية، ويُحقق عائدات أسبوعية بدلا من السنوية.
المصدر : الجزيرة