محاولات ليبية لإنعاش البذور الأصلية الأكثر تكيّفا مع الجفاف

محاولات ليبية لإنعاش البذور الأصلية الأكثر تكيّفا مع الجفاف

طرابلس – مع انطلاق موسم زراعة أغلب الخُضار والفواكه في فصل الربيع؛ يزداد ازدحام الفلاحين والبستانيين على الصيدليات الزراعية في ليبيا لانتقاء البذور، وتُطرح عادة في مثل هذه المواسم أسئلة عن ارتهان الدولة للبذور المُهَجَّنة والمُحَسَّنة المستوردة من الخارج، وإهمال البذور المحلية الأصلية.

ومن داخل إحدى الشركات المستوردة للبذور في منطقة وادي الربيع بطرابلس، يُوضح المهندس الزراعي المصري، عبدالوهاب مبروك، أن “أغلب البذور في ليبيا تستورد من هولندا وإيطاليا وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة والأردن”، فيما يشير صاحب شركة أخرى رفض الإفصاح عن اسمه إلى “وجود بذور إسرائيلية بكثرة، تُسَوَّق بعلامات تجارية أخرى”.

وتكمن المشكلة وفق توضيح المهندس في “عُقم البذور المهجنة عن إنتاج بذور تُعَاد زراعتها، وكذلك عدم تكيُّفِها مع تغيّر المناخ كالبذور المحلية التي تتحمل العطش مثلا”، في معادلة يرى أنها “دفعت للارتهان بشكل كامل للشركات المصنعة”، وذلك عبر تحكّمها في السوق، من خلال إنتاج البذور والأسمدة والمبيدات.

ومن منزله بأطراف المدينة، يسرد أحمد سليمان، أحد المسئولين السابقين في “الشركة العامة للمستلزمات الزراعية” المراحل الأولى لهذا الارتهان، حين يقول “منذ نهاية السبعينات انتقلت ليبيا فجأة إلى النظام الاشتراكي، وتمت مصادرة كل النشاطات الاقتصادية الخاصة، حتى المتعلقة بالزراعة”.

ويتابع “تأسست تبعا لذلك الشركة العامة للمستلزمات الزراعية من أنقاض الشركات والمحلات الزراعية المُصادَرة، واحتَكَرت سوق البذور، وتوجَّهت مباشرة إلى الاستيراد، وباعت البذور المحسنة بأسعار مُدَعَّمة جَذَبت الفلاح، ولم تهتم كثيراً بالبذور الأصيلة، حتى اختفى الكثير منها في السوق. لقد كان الشغل الشاغل لكثيرين في الشركة بيع البذور في السوق السوداء بأسعار مضاعفة، وكسب فرق السعر”.

البذور المهجنة عقيمة وغير قادرة على التكيُّفِ مع تغيّر المناخ كالبذور المحلية التي تتحمل العطش وحتى ملوحة المياه

وفي مطلع الألفية حُلَّت شركة المستلزمات الزراعية كالعديد من شركات القطاع العام، وتحوَّل موظفوها لقطاعات أخرى، وتُرِك سوق البذور بيد شركات خاصة كانت حديثة حينها، ليصل الحال إلى ما يُشبه فقدان السيطرة على السوق بعد امتلاك العمالة الوافدة لأغلب الإنتاج عن طريق استئجار المَزارع.

ويقول أحد الفلاحين لوكالة الأنباء الألمانية “المزارع عامةً والوافد خصوصاً لا يهتم إلا بشكل ووفرة محصوله، ولهذا زاد من اعتماده على البذور المهجنة، مع استخدام مُفرط للأسمدة والمبيدات والهرمونات، حتى فَقَدت المحاصيل طعمها الأصيل، ونضجت في غير مواسمها، دون اكتراث بما قد تحمله من أمراض”.

ومع تشجيعه لها وتخزين بعضها، لا يرى محمد الفاندي، صاحب إحدى الشركات الزراعية مستقبلا للبذور الأصلية، باستثناء ما استمرت زراعته منها، مثل بذور “البرسيم التاجوري” التي يُعتمد عليها محليا بسبب تحملها ملوحة المياه، وهي خاصية “اكتسبتها من زراعتها قرب البحر لمئات السنين”.

ويضيف “تخزين البذور الأصلية قد لا يُجدِ، لأنها تحتاج ظروفا معينة، وقد يَتْلَف بعضها أو يضعف انتاجه، كما أن التخزين يُبعدها عن الأمراض المستحدثة، بحيث لا تتمكن من تكوين مناعة ضدها، وهذا يقودنا إلى حقيقة أن البذور الاصلية انتهت في أغلب دول العالم”.

ومن جهته، يرى المهندس مبروك أن الدول العربية عامة “ساهمت في ارتهان محاصيلها للخارج، وأهملت البحث العلمي، ربما باستثناء الأردن التي استقطبت بعض الشركات الأجنبية”.

ويضيف أن “نشاط محطات التجارب بالشركات الخاصة في ليبيا مثلا يقتصر على دراسة وتجربة البذور المهجنة، للتأكد من ملائمتها للظروف المحلية، وبالتالي تسويقها بشكل جيِّد. كما أن بعض التهجين في الخارج يجري على بذور محلية، حيث يتم التحكم في نسيجها الوراثي، وإضافة أو تركيز صفات معينة وتحييد أخرى، وبهذا الشكل يتغير شكل ولون وطعم ورائحة وملمس الثمار، وينمو المحصول ويتحسن عرضه في الأسواق”، ملمحا في ذات الوقت أن بعض البذور المستوردة “تأتي مصحوبة بآفات أو أعشاب طفيلية ضارة”.

ومن داخل هذا الوسط؛ ظهرت بداية العشرية الجديدة محاولة من بعض المهندسين والمزارعين والمهتمين لإنقاذ ما تبقى من بذور أصلية، حيث شكلوا مجموعة غير ربحية على مواقع التواصل (مجموعة تهادوا للتبادل الزراعي) هدفها “تبادل البذور والعقل” بشروط مسبقة تضمن الإكثار والتوزيع.

وبعد ثلاث سنوات من تشكيل المجموعة، يؤكد أحد مؤسسيها، امبارك السكبي، تزايد الأعضاء عن 20 ألفا. ويقول “لم يسمع أحد عن فكرة كهذه، لهذا لم نتوقع هذا النجاح السريع، وقد ساعدتنا الروابط الاجتماعية التي يمتاز بها الليبيون في نشر المبادرة. والآن تكاثرت البذور الأصلية وتوزعت بعموم البلاد ووصلت حتى تونس والجزائر والسعودية والعراق. وهناك أعضاء من دول أخرى مستعدون للمشاركة لكن ظروف النقل تعرقلنا، كما توجد مراكز بحثية عامة تعمل في ذات الاتجاه، ولعل أبرزها مركزي مصراتة والبيضاء، وهناك أيضا بذور تم تسجيلها في بنك البذور الدولي”.

وتشترط المجموعة على من يتلقى البذور أن يأخذ الكمية التي يستطيع زراعتها فقط، هذا فضلا عن شرط مضاعفةِ كمية البذور في أول موسم على الأقل، ثم إعادة توزيعها على باقي المشتركين بذات الآلية التراكمية، ومراعاة التنوع الجغرافي في التوزيع.

وتُنظِّم المجموعة كل فترة بازارا مجانيا يجمع الأعضاء لتبادل الفسائل ومشاركة البذور، هذا فضلا عن التبادل اليومي الذي يحدث عبر حسابها الإلكتروني، وكذلك النصائح الموجهة عن كيفية العناية بالمحاصيل.

وحتى خارج المجموعة يؤكد السكبي أن “الفلاحين استشعروا الخطر، وبات بعضهم يخصص ركنا من مزرعته للمحاصيل الأصلية، لغرض إكثار البذور”.
ويستدرك بالشرح: “هذا يكفينا مؤقتا للاستمرار بشكل تدريجي، فالهدف الأساسي ليس الربح، لأن الوضع الحالي مازال لصالح المهجن من البذور، لكن الطعم والمذاق لصالح البذور الأصيلة”.

ويستطرد “حاليا لا نريد الضغط على الفلاحين رغم عروض بعضهم ببذل المزيد، وقد حققنا نجاحات عديدة وأنقذنا وأكثرنا بذور أصلية وعضوية، مثل الشعير والقمح والذرة والبطيخ والشمام والطماطم والليف العربي والكوسا وأنواع عديدة من الفلفل تمكنا من كسر حلقة تهجينها وإعادتها للأصل، وكذلك الأمر مع البطاطا التي نجح مركز الأبحاث الحيوية والإكثار النسيجي بالبيضاء في إنتاج درناتها الأصلية، على أمل الإكثار منها مستقبلا”.

ولدى المجموعة احتياطي مركزي للبذور، وتَعْتَبِر أيضا كل عضو “بنكا فرعيا لها” كما تستعد لمدِّ بنوك الدولة ببعض الأنواع، مع الحفاظ على مخزونها الخاص، ربما لعدم الثقة الكبيرة في مؤسسات الدولة.

ويقول السكبي في هذا الصدد “مدّ البذور من الخارج قد يتوقف يوما لأي سبب، كما حدث أثناء وباء كورونا وتعرقل سلاسل الإمداد بعدها، ولا ننسى أن دول الشركات المُنتجة مؤدلجة وذات توجه استعماري، ولهذا فإن محور عملنا هو الحفاظ على خط رجعة في الظروف القاهرة”.

العرب