ليس منصفا مصادرة فرح العراقيين بتحرير وسط مدينة الرمادي من قبضة «الدولة الإسلامية»، لكنه من غير الواقعي أيضا المسارعة إلى اعتبار ذلك نصرا مؤزرا سيكون بالضرورة فاتحة للقضاء الكامل على هذا التنظيم. بين هذا وذاك كثير مما يقال.
الفرح الذي عبر عنه عراقيون في شوارع عدد من المدن بعد دخول الجيش وسط الرمادي، وكذلك فرح النازحين الذين كانوا فروا منها ليستقروا في الأغلب في إقليم كردستان تعبير صادق عن رغبة العراقيين في أن تستعيد مؤسسات دولتهم العسكرية والأمنية قوتها وهيبتها، تماما كما هو تعبير عن رغبة جامحة في التخلص مما اعتبروه سرطانا قبض على رقعة من البلاد فزاد الجسم العراقي المنهك بالطائفية والفساد وهنــًـا على وهن.
هذا الفرح المشروع، وحتى لا يتحول سريعا إلى خيبة أمل إضافية، لا يمكن له أن يطمس مجموعة عناصر من شأنها أن تجعله فرحا حذرا أومؤجلا إلى حين. مثل هذا الكلام لا يقوله بالضرورة مشككون في قدرة الدولة العراقية على بسط نفوذها على كامل البلد الممزق وإنما أناس من داخل السلطة نفسها، وهم بالمناسبة قليلون لأن الأغلبية في الوقت الحالي فضلت إعطاء الأولوية للإشادة بما تحقق وتأجيل الحديث عن الهواجس المتبقية. من بين هذه الأصوات مثلا هوشيار زيباري وزير المالية الذي قال إن الأهم الآن هو»تأمين الرمادي لأن تنظيم الدولة الإسلامية يستطيع شن هجوم مضاد» فضلا عن ضرورة بذل الحكومة «المزيد من الجهد لإعادة بناء المدينة وتشجيع النازحين على العودة».
هؤلاء النازحون من محافظة الأنبار، وهم ثلث النازحين عن ديارهم في كل البلد والذين يتجاوز عددهم الــ 3 ملايين مواطن، من الصعب أن يسارعوا إلى العودة قبل أن تتضح الصورة بالكامل عن التكلفة البشرية والانسانية للعملية العسكرية الأخيرة. الصور الأولى الواردة من الرمادي مركز المحافظة تشير إلى أن كارثة حقيقية قد حصلت. لا أحد يدري الآن بالضبط ما أسفرت عليه أكثر من 600 غارة للتحالف الدولي على هذه المدينة طوال ستة أشهر. لقد أثبتت عديد التجارب السابقة أن عدد المدنيين الذين يذهبون في كثير من الحالات ضحية غارات من هذا القبيل قد لا يقل في أحسن الأحوال عن عدد المسلحين. ثم إن هؤلاء المدنيين الذين بقوا في الرمادي، والذين تعرضوا لكل أنواع القصف لأشهر، هم ضحايا في كل الأحوال، أحياء أوأمواتا، لأنهم إما موصوفون بـ «الرهائن» لدى «داعش» أو»دروعا بشرية» يحتمي بها أوبـ «المتعاطفين» معه إذا ما تمكنوا من النجاة. يحدث هذا سواء غادروا المدينة فوقعوا في قبضة مجموعات مسلحة طائفية تسعى للانتقام منهم، أو بقوا فيها فلا أحد منهم في مأمن من تجاوزات هنا أوهناك من جموع العسكريين النظاميين، حتى بعد إبعاد «الحشد الشعبي» عن المشاركة في هذه العملية.
وبين تحرير الرمادي والمضي نحوغيرها وصولا إلى عراق خال من «الدولة الإسلامية» أشواط معقدة على ما يبدو، فالمتحدث باسم التحالف العسكري الدولي ضد هذا التنظيم ستيف وارن يقول إنه «لايزال هناك الكثير من العمل، وقبل الوصول إلى الموصل علينا أن نتجه شمالا لتحرير وادي نهر الفرات، وتحرير المنطقة حول بيجي، وهذا سيأخذ وقتا» كما أنه «علينا أن ننهي التدريبات لبقية الجيش العراقي وإعادة تشكيل وتحديث الجيش الذي كان يحارب بالرمادي». كل هذا دونما إشارة إلى الجوانب السياسية في العراق وهي لب المشكل قبل أي حديث عن المسائل العسكرية على أهميتها الضاغطة.
هذه الجوانب السياسية لم تغب حتى عن أذهان محللين عسكريين أمريكيين دأبوا عادة على الحديث البارد عن الوقائع الميدانية على الأرض دون غيرها، من ذلك أن الجنرال المتقاعد «باري ماك فيري» المحلل العسكري لإحدى القنوات الأمريكية لم يجد بدا من القول إن «هناك إشكالية في العراق متمثلة أولا بالأكراد الذين يقاتلون دفاعا أراضيهم، وثانيا بالسنّة في الأنبار والرمادي الذي يشعرون بالحرمان والتهميش من جانب حكومة ذات أغلبية شيعية والتي ينبغي عليها أن تتيقّظ لهذا الأمر، كما أن المشكلة السياسية الأخرى القائمة في ذلك البلد تتمثل في أن الجيش العراقي أغلبه من القوات الشيعية ورغم أنه قام بعمل جيد، لكن مع غياب الإرادة السياسية وفي ظل زعماء سياسيين فاسدين، لا أظن أن هذا الجيش سيعيد توحيد العراق أبدا».
كسب المعركة ضد «داعش» نهائيا ، على أهميته وعلى فرض حصوله، مع إبقاء قضايا مصيرية عالقة، كالتوجه الطائفي للحكم في العراق وفساده الكبير وتبعيته المفضوحة لإيران وعربدة الميليشيات الموالية لها، أشبه بالمريض الذي كللت عمليته الجراحية بالنجاح… لكن الطبيب نسي المقص في بطنه!!
محمد كريشان
صحيفة القدس العربي