يُسجل لمعركة الرمادي غرب العراق أنها ألحقت هزيمة واضحة بتنظيم داعش، وهي الهزيمة النوعية الثانية التي تلحق به، بعد إخراجه من مدينة كوباني (عين العرب) على أيدي مقاتلين من الحركة الكردية والجيش الحر.
وبالحساب الزمني المجرد، فقد بدأ عام 2015 بهزيمة داعش في يوم 26 من الشهر الأول من السنة، فيما تم استعادة الرمادي في الأسبوع الأخير من السنة نفسها. ليست سنة جيدة على هذا التنظيم الإرهابي، وقبل الرمادي فقد مثلّت خسارة سنجار، منتصف نوفمبر/تشرين ثاني الماضي، ومدينة تكريت ومصفاة بيجي العراقيتين، أكبر خسائر داعش في الفترة الأخيرة في العراق.
يثبت تحرير الرمادي أن الحرب البرية وحدها من تحسم هزيمة هذا التنظيم على الأرض، وبينما يقاتل الأكراد التنظيم، ومعه قطاعات من الجيش السوري الحر، وبدون تنسيق بين الجانبين، فإن الميليشيات اللبنانية والعراقية والباكستانية والأفغانية، التي تتبع إيران لا تضع داعش في مقدمة أهدافها، بينما توجّه كل جهودها ونيرانها، وبدعم الطيران الروسي لمحاربة الجيش الحر، فيما العراقيون، على اختلاف مشاربهم، ومعهم الأكراد في الشمال، التقوا على محاربة هذا التنظيم، وأخذوا يحققون نجاحات ملموسة، ويتطلعون إلى معركة كبرى لاستعادة الموصل، كما وعد رئيس الحكومة، حيدر العبادي. وقبل ذلك استعادة الفلوجة ونينوى التي ما زال داعش يسيطر عليهما.
بالحرب البرية الناجعة التي كان عمادها، هذه المرة، الجيش العراقي، وليس الحشد الشعبي، وبالحد الأدنى من اللقاء الوطني الجامع، فقد أمكن هزيمة داعش في نقاط تموضع مهمة له. وقد أثار هذا التطور مشاعر بهجة عارمة، من أهم مظاهرها استعادة الثقة بالقوات العراقية المسلحة، وتجديد الرهان عليها، لحفظ أمن العراق وحدوده وسيادته، وذلك بعد النكسة المريرة التي لحقت بصورة الجيش عقب سقوط الموصل في يونيو/حزيران 2014. وقد أسهم اللقاء الوطني بين مختلف المكونات إسهاماً مباشراً في بلورة المعركة ضد داعش، باعتبارها معركة وطنية. وقد كتب وزير النفط والقطب الشيعي، عادل عبد المهدي، بعد تحرير الرمادي، مشدداً على عدة أمور، من أجل مواصلة هزيمة داعش، في مقدمها رعاية العلاقات الوطنية، بما يحقق الوحدة والانسجام، وداعياً إلى احترام حقوق جميع المكونات، ومشدداً على الوقوف مع النازحين، والعمل على عودتهم إلى ديارهم، واعتبار ذلك واجباً وطنياً وإنسانياً (وكالة أنباء براثا).
وفي التصريح إشارة غير خافية إلى عدم تمكن النازحين من العودة إلى ديارهم، علماً أنه
يحُظر على بعض هؤلاء دخول العاصمة بغداد، وقد يحتاجون، وهم عراقيون، إلى كفيل عراقي! وعددهم، حسب تقارير مختلفة أهمها الصادرة عن المنظمة الدولية للهجرة، لا يقل عن ثلاثة ملايين نسمة. وكان هؤلاء قد نزحوا من مناطق سبق أن سيطرت عليها داعش، وهم غير مرحب بهم في مناطق أخرى، وبالذات العاصمة، ويواجهون صعوبة شديدة في العودة إلى بيوتهم، فإما أن يكون داعش قد دمّر تلك البيوت، أو ألحق بها أضراراً جسيمة، أو يتكفل الحشد الشعبي بالتنكيل بهم، وبمنع عودتهم.
على الرغم من هذه الأجواء الشاذة، فقد تحقق إجماع وطني عبّرت عنه، على الخصوص، العشائر السنية على أولوية محاربة داعش، ويحتاج الأمر إلى تكريس هذا الإجماع، من أجل مواصلة الحرب على التنظيم الإرهابي، ما يتطلب وقف سياسة التغليب الطائفي، واحترام حقوق الجميع بصورةٍ لا لبس فيها، كما نوّه بذلك وزير النفط العراقي، مستشعراً مكامن الخلل الاجتماعي والوطني الفادح في بلاده، وهو بالمناسبة خللٌ سابق على صعود داعش، وسيكون من سخرية الأقدار أن يتحشد الجميع لمحاربة داعش، ثم تتم المحافظة على الأعطاب السياسية والاجتماعية، وفق منطق الإقصاء والتقريب على أسس طائفية محضة، ولا وطنية.
فإذا أمكن الاحتفاظ بالحد الأدنى من اللقاء الوطني، وبادرت حكومة حيدر العبادي إلى اتخاذ خطوات ملموسة لإعادة النازحين إلى ديارهم والتعويض عنهم، وطمأنتهم في أجواء من الاحترام والتآخي الوطني الفعلي، فإنه يمكن التطلع إلى استكمال تحرير بلاد الرافدين من هذا التنظيم، وبمشاركة المكوّن الكردستاني (البيشمركة). وكلما كان العنوان الوطني هو الراية المرفوعة للمعركة، فإن فرص نجاحها تصبح أكبر، وكلما غلب اللون الطائفي على التحشيد تضاءلت فرص إلحاق الهزيمة بهذا التنظيم، وهو ما دلت عليه خبرة المواجهات السابقة.
في سورية، وعلى الرغم من الحملات الجوية للتحالف الغربي، فإن أفضل نتيجة في المواجهة هي التي حققها المقاتلون الأكراد، بالتعاون مع الجيش الحر، لإخراج التنظيم من مدينة كوباني. في الأسابيع الأخيرة، خاضت قوات كردية مواجهات مع التنظيم في ريف الرقة. يتمتع الأكراد السوريون بعلاقاتٍ مع طرفي النزاع، النظام والمعارضة. وفي الأسابيع الأخيرة، ومع تشكيل قوات سورية الديمقراطية، وعمادها قوات كردية، والخلاف العلني بين الزعيم الكردي السوري، صالح مسلم، وقيادة ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، بدا حزب الاتحاد الديمقراطي أكثر تناغماً مع النظام الذي يتيح له إدارة مناطقه بحكم ذاتي، وهذا الوضع هو ما يسهل على الحركة الكردية صراعها مع داعش حول الرقة.
وقد شهدت الفترة الأخيرة تراجعاً للتنظيم، وفقدانه بعض مواقع سيطرته في سورية، إذ خسر السبت الماضي، 26 ديسمبر/كانون أول، سداً استراتيجياً يقع على نهر الفرات (سد تشرين) شمال سورية. فيما يخوض داعش حرباً ضروساً ضد الجيش الحر في ريف حلب، بينما تتولى الطائرات الروسية قصف مواقع المعارضة المسلحة بلا هوادة، الأمر الذي يشكل تقوية لوضع داعش.
ومغزى ذلك أنه بدون تغير البيئة السياسية، وبدون انتقال سياسي في سورية، وبغير توافق وطني عريض وثابت، يصعب تصور قيام معركة برية ناجعة ومنسقة ضد داعش، تشارك فيها أوسع القطاعات المسلحة. وإذا كان الحد الأدنى من اللقاء الوطني في العراق قد أسهم، بصورة مباشرة، في نصر الرمادي الأخير، فإن نجاح حلٍ سياسي جدي في سورية، وفقاً للمرجعيات الدولية، من شأنه بالفعل حقن الدماء ووقف إطلاق النار، وتوجيه كل البنادق ضد داعش الإرهابية.
محمود الريماوي
صحيفة العربي الجديد