“الأحوال الشخصية” العراقي يفجر معركة الدين والعلمانية

“الأحوال الشخصية” العراقي يفجر معركة الدين والعلمانية

تتعدى الأزمة الحالية لاستصدار قانون جديد للأحوال الشخصية في العراق بعدها التشريعي المجرد إلى فتح ملفات الدولة العراقية الخلافية وتأرجحها بين الدولة الدينية والدولة المدنية، حيث يصر رجال دين ونواب يمثلون المكون الشيعي على فرض التشريعات الجعفرية على المجتمع، مما يفتح أزمات تلو أخرى مع الشريك السني في العملية السياسية الجارية في البلاد.

فرض قرارات الغالبية

عدد من النواب ورجال الدين الشيعة يرون أن القوانين تُفرض بحكم الغالبية التي يمثلها المكون الشيعي والتي تتخطى نسبة النصف، بل يرجحون أنها تصل إلى أكثر من 60 في المئة من عموم المجتمع، مما يعطيهم أحقية فرض القوانين بحكم الغالبية العددية والبرلمانية التي يمثلونها، من دون مراعاة للاتفاقات السياسية التي توافقوا في شأنها والتي رعاها الأميركيون وأشرفوا على هندستها منذ عام 2003 حين احتلوا العراق وقلبوا نظام الحكم إلى ديمقراطي تعددي فيدرالي يحكمه دستور ثابت تحت رعايتهم ووجودهم العسكري خلال أعوام 2003 – 2011.

الأزمة في بعدها الآخر كشفت عن حال الصراع وفرض الإرادات حول أسس الدولة العراقية القائمة حالياً، وهل هي دولة مدنية كما يقرها دستور عام 2005 أو دينية كما يريدها رجال الدين بمواصفات تحاكي النظام في إيران، استرضاء لمراجعها الذين يعتمدون مفهوم “ولاية الفقيه” التي لا تقرها مراجع النجف، لا سيما مرجعها الأعلى السيد علي السيستاني.

كما كشفت الأزمة أيضاً عن التناقض في الرؤية والتوجه داخل العملية السياسية، خصوصاً في الأوساط الشيعية، وتنعكس حتماً على الممارسات اللاحقة وفرض منطق التشظي في الدولة المتوافق عليها سياسياً بين المكونات.

قوى “الإطار” الداعمة

لكن قوى “الإطار” الحاكم تشكل مظلة موالية للتوجه الإيراني ومتواشجة مع تاريخ طويل من العمل المعارض للنظام السابق وإيواء تاريخي لرجال الدين هناك، انبثقت منه فيالق عسكرية وأحزاب موالية لإيران نقلت عملها وماكينتها الحزبية والسياسية والعسكرية إلى العراق وتغولت فيه تدريجاً بعد عام 2003.

كل تلك المحصلات السياسية تفرض اليوم على المجتمع مظلة طائفية كثيفة وقوانين وأنظمة مخططاً لها بعناية لتغيير الواقع العراقي المنعزل عن محيطه العربي قسراً ليحاكي التجربة الإيرانية في الحكم والإدارة، وجاء موضوع فرض التشريعات الجعفرية على عموم المجتمع العراقي الذي يرفضه كثير من المفكرين والبرلمانيين السنة، ليشمل مشروع التعديل الذي يبيح زواج القاصرات (أقل من 10 سنوات)، والزواج الوقتي (زواج المتعة)، ويضبط الميراث وأمور الزواج والطلاق بضوابط جعفرية، مما أثار جدلاً لا ينتهي وحرك الأجواء باتجاه الفرقة والاختلاف الشديدين تعديا جدران البرلمان إلى عموم المجتمع بحملة غير مسبوقة.

وفي وقت غياب الإدارة السنية في البرلمان بتعطيل انتخاب رئيس للبرلمان من المكون السني منذ إقالة رئيسه السابق محمد الحلبوسي، وفق نظام المحاصصة المعمول به، أثار مشروع التعديلات حفيظة المشرعين والمفكرين المدنيين حيال هذا الخطاب الديني الشيعي الذي يعمل بمقتضى حملة منظمة أرادت تمريره معتمدة على نواب “الإطار الشيعي” الحاكم.

زواج القاصرات المريب

يقول الباحث عدنان الخفاجي على منصته الخاصة “هاف بوست”، “في عصر التنوير والحقوق يقف أحد النواب كتمثال حجري من عصور الظلام مؤيداً زواج القاصرات كمن يحاول جر المجتمع إلى الوراء بتصريحاته المتناقضة وأفكاره، ويكشف عن عقلية لا تنتمي إلى العصر الحديث بل إلى زمن كانت فيه الفتيات يُبعن ويُشترين كسلع. وهو يتظاهر بالتدين لكنه لا يخدع سوى نفسه، فالحقيقة الساطعة هي أنهم يعوقون تقدم المجتمع ويقيدون حقوق الفتيات بأغلال الجهل والظلم. وفيما يثار الجدل حول قضايا حقوق الإنسان في العراق، سقط النائب في فخ النقاش الدائر حول زواج القاصرات، متخبطاً بين تبريراته المتناقضة وتصريحاتها المثيرة للدهشة. وخلال ظهوره الأخير على إحدى الفضائيات أكد النائب المذكور تأييده لقانون يتيح زواج القاصرات، مثيراً بذلك عاصفة من الانتقادات والغضب”.
يذهب الباحث في مركز “حلول” في بغداد مازن صاحب للقول إنه “بين حين وآخر ترتفع عقيرة الاستحواذ للإسلام السياسي في عراق اليوم على ثوابت التشريع في الدستور لفرض تصور أمام جمهورهم بأن التزام أحكام الشريعة الإسلامية في قانون الأحوال الشخصية واجب عقائدي، والسؤال المتكرر في فوضى الفساد السياسي هو هل التزام أحكام الشريعة لا يشمل سرقة المال العام أم فقط منح رجال الدين سلطة تعلو فوق سلطة القانون تفرض على القضاء التعامل مع متغيرات تفسير النصوص الشرعية؟”.

ويتابع أن “السؤال المقابل هو ألم يتعامل القانون السابق مع ثوابت الأحكام الشرعية وفقاً لمذاهب؟، والجواب نعم. في نصوص صريحة تم تحليل هذا السؤال قانونياً في تغريدة لأحد أبرز القضاة المتقاعدين، معززاً إجابته بنصوص قانونية. أما السؤال الثالث فهو لماذا هذا الإصرار من الإسلام السياسي على منح رجال الدين سلطة فوق سلطة القضاء في تطبيق يعزز التزام نموذج ’ولاية الفقيه‘ المختلف فيه وعليه عراقياً، حتى داخل حوزة النجف الأشرف؟”.

أكاذيب العلمانيين

ومقابل هذا الاستنفار الذي يشنه العلمانيون حول مسودة التشريع الجديد لقانون الأحوال الشخصية الصادر عام 1959 في زمن الحكم الجمهوري الأول، لا سيما أن التعديل الجديد يبيح زواج القاصرات، فإن المروجين لفرضه يرون في حجج العلمانيين واعتراضاتهم الشديدة ما يقولون إنه “سيل من الأكاذيب والأباطيل يطلقها العلمانيون ومنظمات مرتبطة بسفارات غربية داعمة للشذوذ والجندر، وتستهدف القانون الشرعي للأحوال الشخصية”، بحسب الباحث الإسلامي عبدالزهراء الناصري الذي يرى أن “العلمانيين بإمكانهم أن ينظموا أحوالهم الشخصية وفق القانون الوضعي الساري (رقم 188) لسنة 1959، ولا يتضمن تعديل القانون إجباراً لهم على التزام أحكام القانون الشرعي، فلماذا يريدون أن يجبروا المتدينين على تنظيم أحوالهم الشخصية خلاف معتقداتهم ودينهم؟ أليس هذا استبداداً من العلمانيين؟”.

ويضيف، “هم يثيرون كذبة واضحة وتدليساً خبيثاً متعمداً بأن القانون يسمح بزواج القاصرات، متذرعين بأن سن البلوغ الشرعي تسع سنوات، وهذا كلام كذب لأسباب عدة، فهناك فرق بين سن البلوغ وسن الزواج وسن الأهلية لممارسة أدوار ووظائف تتعلق بجانب مالي واقتصادي”، موضحاً أن “سن البلوغ هو تحديد لمدار توجه الكلف الشرعية للإنسان وليس مؤهلاً لكافة الوظائف والأنشطة المسموح بها شرعاً، فمثلاً النشاط المالي لا يصح إلا ببلوغ سن الرشد والنضج الاجتماعي والاختبار والتحقق من تحقق الرشد لكلا الطرفين الرجل والمرأة، وكذلك الزواج يشترط فيه الرشد وهو بلوغ القدرة العقلية والنضج الاجتماعي والخبرة بشؤون الحياة، مما يحتاج إلى فترة زمنية تتجاوز سن البلوغ، علماً أن سن البلوغ لدى بعض الفقهاء الشيعة المعروفين هو 13 سنة، يضاف إلى ذلك اشتراط موافقة ولي البنت في التزويج لمنح ضمانات إضافية في ترشيد قرار المرأة بالزواج”.

الدستور يعتمد التشريع الإسلامي

يؤكد الناصري أن “الدستور العراقي لا يجيز العمل بقوانين تخالف أحكام الإسلام، ومن الواضح أن القانون الوضعي النافذ للأحوال الشخصية مخالف في كثير من مواده لأحكام الإسلام، وبمراجعة سريعة لمواقف مراجع الدين، بدءاً من المرجع الراحل السيد محسن الحكيم (1889- 1970)، مروراً بالرسائل العملية لفقهاء الشيعة، سنجد المخالفات واضحة وصريحة. فمثلاً لماذا يسمح للمسيحيين في العراق بتنظيم أحوالهم الشخصية وفق ديانتهم ولم يعترض العلمانيون والمنظمات المرتبطة بالسفارات الغربية على ذلك ويعتبروا أنه يخالف الوحدة الوطنية كما يروجون؟. إن تنوع المجتمع العراقي المسلم بين شيعة وسنة ليس ناتجاً من تشريع قانون شرعي للأحوال الشخصية وإنما هو واقع قائم منذ مئات السنين، فيكون تشريع القانون الشرعي هو لتنظيم أحوالهم الشخصية وفق معتقداتهم بصورة رسمية ضمن مؤسسات الدولة، وإلا فإن المتدينين لن يخضعوا لمخالفات القانون الوضعي، وسيضطرون إلى تنظيم أحوالهم الشخصية خارج السلطات التي تعمل بقانون يخالف معتقداتهم، وفي ذلك تضييع لحقوق هؤلاء”.

ويضيف، “أولئك العلمانيون فاتهم أن دولاً غربية مثل بريطانيا قبل أكثر من 10 سنوات أصدرت قرارات تسمح للمسلمين في بريطانيا بتنظيم أحوالهم وأحكام إرثهم وزواجهم وفق أحكام دينهم الإسلامي. فلماذا تعارض بعد ذلك المنظمات المرتبطة بهذه السفارات إقرار قانون ينظم أحوال المسلمين العراقيين وفق ديانتهم؟”.

‏من منفاه في قم بإيران حيث فرضت عليه الإقامة الجبرية منذ أربع سنوات ومنع من مزاولة دروسه ونشاطاته العلمية والفكرية بإغلاق جميع مكاتبه ومواقعه الرسمية، كما يؤكد أتباعه ومريدوه ومقلدوه في العراق، يقف العلامة العراقي كمال الحيدري ضد القانون الجعفري الخاص بتعديل قانون الأحوال الشخصية منذ سنوات، وهو يرى أنه “خط أحمر لا يمكن المساس به إطلاقاً فهو الآصرة الاجتماعية بين جميع شرائح المجتمع بأديانهم وقومياتهم ومذاهبهم، ومن يسعى إلى تعديل قانون الأحوال الشخصية بوضع نزعة مذهبية أو دينية عليه فهو من حيث يعلم أو لا يعلم يسعى إلى هدم هذه الآصرة الاجتماعية والأسرية”.

أسئلة من دون جواب

وتثير النائبة المستقلة عالية نصيف زوبعة من الأسئلة حول القانون ومسوغات تقديمة للبرلمان في بيان لها، من بينها “هل قرأ أحد من المختصين والقضاة أو أحد مراجعنا المعتمدين الورقتين اللتين تم توزيعهما في مجلس النواب بخصوص المشروع؟ وهل تم عرضهما مسبقاً على المراجع الشيعية؟ وبناء على ما جاء في الورقتين هل يوجد مجمع علمي لدى الشيعة أم لدينا مراجع؟ ومن الذي سيشكل المجمع العلمي؟ وفي حال تشكيله حزبياً، هل ستصبح حياة الناس مرهونة بالمجمع؟ وهل من المنطقي أن يتم تعديل المادة ثانية اعتماداً على مدونات ستصدر في المستقبل بعد 6 أشهر؟”.

وأكدت نصيف أن “زواج المأذون هو نقطة واحدة من بين كثير من النقاط المثيرة للجدل في هذه الورقة، فهذا الزواج يتسبب في وجود أطفال شرعيين ولكن مسجلين قانونياً أنهم بلا هوية، كما أن زواج المأذون لا يطالب الزوجين بإجراء الفحوصات للأمراض المناعية أو الوراثية، أي يساعد على تفشي الأمراض الوراثية والتشوهات إضافة إلى الإيدز، وفي حال تخلي الزوج عن الزوجة وتخلصه من الإثبات سيفتح أبواب القتل بحجة غسل العار، وهل المأذون الذي سيعقد عقد الزواج مقابل مبلغ مالي سيراعي العدة وهي من المقدسات لمنع اختلاط الأنساب؟”.

وبينت نصيف أن “هذا القانون يتعلق بالأسرة العراقية، بالتالي نريد نصوصاً واضحة وغير قابلة للتأويلات المتعددة”، مشيرة إلى أن هاتين الورقتين هما مجموعة أفكار مشتتة يراد بها توريط المؤسسة التشريعية، بالتالي نرفض ما جاء فيهما جملة وتفصيلاً”.

ويرى كثير من المراقبين أن تقديم مشروع قرار تعديل قانون الأحوال الشخصية وهو إشكالية مثيرة للجدل تزامنت مع مشروع قرار العفو العام الذي يراد له أن يطلق سراح آلاف المودعين والمحكومين في السجون، ليكون ورقة تفاوض ضاغطة في البرلمان الذي غاب عنه رئيسه (السني) وفق المحاصصة السارية بعرقلة مكشوفة كما يصفها نواب السنة في البرلمان.