وعلى الرغم من كل ما ذكر أعلاه، فإن انفتاح الساحة بين المناطق التي تسيطر عليها داعش في العراق، وفي سورية، يعد من أهم الأسباب التي تدفع التنظيم المتطرف إلى إحكام سيطرته على هذه المناطق، والإيحاء للآخرين بأنه غير مستعدٍ للتخلي عنها تحت أي ظرف، على الرغم من أن هذا التنظيم المتطرف استعدى عليه الولايات المتحدة الأميركية، ليس فقط في وجودها الإقليمي في العراق والخليج العربي، بل في وجودها على الساحة العالمية، باعتبارها عدواً دولياً للتنظيم الذي يمثل، بحسبها، الإرهاب الذي يهدد الولايات المتحدة وأمن مواطنيها، ومصالحها الكونية. كما أن الحكومة العراقية التي فقدت السيطرة على نصف مساحة العراق، وراعيتها إيران ذات المشروع التوسعي الطموح في العراق والمشرق العربي، قد اعتبرتا داعش مهدداً مصيرياً. وقد ازدادت مخاوف الدول العربية (السنية) في المشرق والجزيرة العربية من التهديدات المحتملة، بل والتي بدأت تطالها فعلاً، والتي يمثلها هذا التنظيم المتطرف.
كل هذه الأسباب جعلت من تمسك داعش بالمرتكزين، الموصل والرمادي، أمراً ذا أهمية كبرى في تخطيطها الجيوستراتيجي.
داعش والسكان العرب السنة
يبدو للوهلة الأولى أن تنظيم داعش في المناطق العربية السنية قد استوطن هذه المناطق برضا أهلها ودعوتهم، نظراً للحيف الذي ألحقته بهم الحكومات المتعاقبة، وخصوصاً حكومتي نوري المالكي الذي استحوذ على السلطة دورتين انتخابيتين، ظل ينظر إلى سكان هذه المناطق أعداء، عندما سمّاهم أتباع يزيد، في خطاب وجّهه من كربلاء في نهاية عام 2013، وفي ذكرى إحياء مأساة مقتل الحسين بن علي، لكن الواقع غير هذا بالتأكيد، فأهل هذ المناطق سبق وأن أنهوا نفوذ القاعدة سلف داعش، والتي أنسلته، لكن حكومة المالكي جازتهم جزاء سنمار، كما يقول العرب، ولاحقت شبابهم الذين صفوا القاعدة، وأساءت معاملة هذه المناطق.
لم يقاوم، هذه المرة، سكان هذه المناطق داعش، عند دخوله إلى مناطقهم، إلا مجموعة مرتبطة بالحكومة من صحوات الأنبار. هنا، نشأت متلازمة غريبة، فمع عدم تأييد سكان هذه المناطق داعش محاولتها فرض نمط تعبُّدي يتعارض مع إدراكهم الإسلام، إلا إنهم لم يبادروا لقتال داعش، لعدم تكرار موقفها السابق الذي رأته ساذجاً، وأصرت على تحقيق مطالبها المشروعة بالاعتراف بها، سواء من بقية أشتات المجتمع العراقي المفتت، لكي تنخرط في قتال داعش، بعد أن يشكل الحرس الوطني من سكانها، وعدم السماح لـ”الحشد الشعبي” بدخول هذه المناطق، لكي لا تتكرر مآسي ديالى وتكريت، من وجهة نظرها المحقة.
الجغرافيا والطوبوغرافيا والمجهود الحكومي
يقسم نهر الفرات مدينة الرمادي إلى قسم شمالي، يضم مناطق البو فراج، والبو ذياب، والبو عيثة، والبو علي الجاسم، وهي قبائل دليمية معروفة. وتسكن جنوب النهر قبائل البو محا، والبو سودة، والبو خليفة، والبو علوان، والبو عبيد، وتتوزع الأحياء الحديثة على أساس التجمعات حسب انحداراتها المهنية، مثل حي الضباط، وحي التأميم، وحي الجمعية، وحي الزراعة وغيرها. تقع جامعة الأنبار في أقصى الجنوب الغربي، تسكن بعض عشائر الدليم في أحياء سكنية في ضواحي الرمادي، ويتردد اسمها في البيانات الخاصة بالمعارك السائدة، كالبو ريشة والبو عساف. وهنالك تجمعات سكنية في الضواحي القريبة، كزنكورة والخمسة كيلو، والسبعة كيلو.
يقع مقر اللواء الثامن ومعسكره غرب القسم الجنوبي من الرمادي، وهو منطقة عسكرية متكاملة، تمسكت بها القوات الحكومية طويلاً، قبل سقوطها بيد داعش. ومن الملامح الجغرافية والمهمة هنا هو ناظم وقناة الورار التي تأخذ مياه الفرات أيام الفيضان باتجاه بحيرة الحبانية الواقعة إلى الجنوب الشرقي من المدينة.
وبعد هجوم القوات العراقية على موقع اعتصام الرمادي، بأمر من رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، ابتدأت عملية مقاومة عراقية مشروعة لتعدي قوات المالكي على المدينة، قادتها المجالس العسكرية التي استطاعت السيطرة على أجزاء من المدينة ومحيطها، لكنها فشلت في إحكام سيطرتها على المدينة، بعكس الفلوجة التي سيطرت عليها المقاومة، بقيادة المجالس العسكرية قبل دخول داعش. يعود السبب في فشل المقاومة العراقية في السيطرة على الرمادي لأسباب عديدة، منها موالاة الحزب الإسلامي الذي كان يقود المحافظة إدارياً للعملية السياسية الحالية، ولوجود صحواتٍ سنية توالي الحكومة التي يقودها نوري المالكي، ولكثافة القوات المسلحة العراقية في المنطقة التي كانت تتخذ من معسكر اللواء الثامن مرتكزاً وقاعدة حصينة لها.
تغيّر الموقف جذرياً بعد سقوط الموصل بيد داعش يوم 10 يونيو/ حزيران 2014، فتساقطت مدن المنطقة السنية تباعاً بيد المجالس العسكرية، ثم بيد داعش بعد أن أبعدت غالبية المجالس العسكرية عن الواجهة بضغط من داعش التي طلبت من هذه المجالس مبايعتها والولاء لها، وإلا عليها ترك (الجهاد) واعتبارها إياهم من القواعد (تاركي القتال)، وقد حصلت نتيجة ذلك اصطدامات بين بعض فصائل المجالس العسكرية، كما حصل بين جيش المجاهدين وداعش في الكرمة والصقلاوية.
تمكن داعش من السيطرة على الرمادي بعد سقوط الموصل كما أسلفنا، وسيطر على كمية كبيرة من الأسلحة والمعدات التي تركتها القوات العسكرية، بناءً على أوامر صادرة عن مكتب نوري المالكي التي طلبت من القوات الانسحاب، كما حصل في الموصل، فتحول الانسحاب إلى هزيمة، وتركت الأسلحة الحديثة في أماكنها.
بدأ التفكير باستعادة الرمادي، لخطورتها الاستراتيجية وتهديدها خط المرور الدولي الرابط بسورية والأردن من جهة، ولقربها من بغداد وتهديدها إياها. وقد جوبهت خطط عديدة لاستعادتها بمصاعب جمة، بسبب إصرار الحشد الشعبي الطائفي التوجه الذي تقوده قيادات طائفية بامتياز على الاشتراك بها، بل قيادتها وبروح الانتقام نفسها التي وسمت معارك الحشد في ديالى وتكريت والبيجي، وهو أمر قوبل بالرفض من عشائر المنطقة التي طالبت بأن تتسلح وتنخرط في ملاك الحرس الوطني، على أن تأخذ على عاتقها مسؤولية تحرير مدنها. وقد عارضت الحكومة والحشد ذلك، في حين حظي هذا الطرح بتأييد الحكومة الأميركية ومسؤوليها العسكريين في العراق.
فشلت عدة محاولات سابقة للتعرض الأخير في تحرير المدينة، وتكبدت قوات الحشد خسائر فادحة في هذه الجبهات، الأمر الذي جعلها تنسحب من المجابهة، والبقاء على الأطراف وسط مطالبات محلية بسحبه من المنطقة، خشية تكرار ما حصل في ديالى وصلاح الدين، واستخدام هذا الحشد سياسة الأرض المحروقة، وقد أصر الأميركيون على سحب الحرس من المجابهة شرطاً لاستمرار الدعم الجوي الذي تسديه القوات الجوية الأميركية جزءاً من التحالف الدولي المناهض لداعش، وجزءاً من التزاماتها وفق الاتفاقية الاستراتيجية مع الحكومة العراقية (سوفا).
ولذلك، فقد قامت القوات المسلحة الأميركية بتدريب حوالي خمسة آلاف متطوع عشائري على أساليب القتال، وتم زجهم في القتال في المعركة الأخيرة بإسناد جوي أميركي فعال فتح الأبواب، هذه المرة، لنجاح التعرض الحكومي.
بدأت المعركة الجديدة عملياً في يوم 8 ديسمبر/ كانون الأول، إلا أنها تعثرت في مراحلها الأولى. وكثفت القوات الحكومية وجودها، ونفذت خطتها الجديدة بإسناد جويٍ أميركي مكثف، اعتباراً من يوم 22 ديسمبر، وقد حالفها النجاح في التقدم على المحور الجنوبي، حيث يقع فيه المجمع الحكومي، فبعد سيطرتها على جامعة الأنبار تقدمت باتجاه الحوز، وحي الضباط والطاش، والتأميم.
أعلنت القوات العسكرية، من دون تأييد من مصادر محايدة، ولا من القوات الأميركية المساندة، أنها حررت المجمع الحكومي، لكنها لم تدخله خشية وجود تلغيم أو تفخيخ. وقد تم تأكيد السيطرة على المجمع بعدئذٍ، وأشار البيت الأبيض ووزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) في بيانين منفصلين إلى النجاحات التي تم تحقيقها، من دون تأكيد السيطرة الكاملة على مدينة الرمادي.
ولا زالت المعارك مستمرة وقد تلحَق بالمدينة أضرار مدمرة ببنيتها التحتية، نتيجة القصف الجوي والمدفعي، وستلحق بالمدنيين المحاصرين في المدينة خسائر فادحة جرّاء المعارك. وبهذا الصدد، فإن الأرقام الحكومية تشير إلى أن المدينة مدمرة بنسبة 80%، وتتحمل مسؤولية التدمير كل من داعش والحكومة التي كانت تستخدم القصف الجوي والمدفعي وسيلة لمجابهة داعش، في غياب خطة كاملة للسيطرة على المدينة واستعادتها قبل المعركة الأخيرة.
تقويم النتائج .. والتوقعات
لو نجحت القوات الحكومية في فرض سيطرتها على الرمادي، بعد استعادتها ستحقق: دفعة معنوية كبيرة للقوات الحكومية وللحكومة نفسها، رفع الضغط عن بغداد بشكل محسوس، تهديد الفلوجة بشكل يجعلها واهنة حيال تعرّض مقبل مما سيطّهر القسم الجنوبي من الأنبار من الوجود الداعشي، ويرفع الضغط عن غرب بغداد نهائياً، تأمين أكبر لخط المرور الدولي السريع، تمزيق تواصل داعش مع مرتكزاتها القوية في العراق، وسورية.
ولا تزال المعركة بين داعش والقوات الحكومية طويلة، وعلى الرغم من مشاركة قبائل دليمية عديدة فيها، إلا أن هذه القبائل لا تزال غير مقتنعة بالدعم الحكومي. ويتبادر إلى الأذهان، هنا، احتمال تسلل الحشد الشعبي الطائفي إلى المدينة بروح انتقامية، بعد السيطرة عليها، كما حصل في تكريت. وعند ذلك، قد تشتبك قوات العشائر الدليمية المسلحة مع الحشد الشعبي، دفاعاً عن مدينتهم. تتطلب الحكمة من حكومة رئيس الوزراء، حيدر العبادي، سحب الحشد الشعبي من الأنبار والمناطق العربية السنية، للإبقاء على ما تبقى من وشائج بين عرب العراق، بشقيهم السني والشيعي.
كما أن تكتيكات داعش بقتال المهارشة سيجعل من سيناريو بيجي مشهداً قابلاً للتكرار. من هنا، يمكن فهم تردد العبادي بالإعلان الجدي عن أي تقدم ونجاحات، وقد شهد الجميع تعرض موكبه الذي اقترب من الرمادي لقصف داعشي، جعله يترك المنطقة بسرعة، كما هو الحال نفسه بالنسبة للقوة المساندة الكبرى، الولايات المتحدة الأميركية. ومع ذلك، ولغموض أهداف داعش، كل الاحتمالات تبدو مفتوحة.