لو كان جيش العراق حاضراً

لو كان جيش العراق حاضراً

الجيش العراقي

قال خبير عسكري، في ندوة تلفزيونية غداة سقوط الموصل بيد داعش، “لو كان جيش العراق الوطني حاضراً لما سقطت الموصل”، واستدرك بألم: “لكن كلمة (لو) لا تنفع مع الأسف”. يتذكّر العراقيون جيشهم الوطني، كلما ادلهمّت عليهم المحن، وطوّقتهم النائبات، هم يدركون أن الانتكاسات المتلاحقة للمؤسسة العسكرية التي أنشأتها سلطة الاحتلال، وكبدت الخزينة العراقية أكثر من ثلاثين مليار دولار، واختراقات داعش المتلاحقة لمدن عديدة، وتمكنه من الهيمنة عليها. كل هذا ما كان ليحدث، لو كان جيش العراق الوطني الذي اقترنت سنوات تأسيسه بسنوات الاستقلال الأولى حاضراً، ولم يتم حله، واجتثاث ضباطه وجنوده على أيدي “النخبة” السياسية التي نصبها المحتلون على الحكم.
حاول حاكم العراق بعد الاحتلال، بول بريمر، أن ينأى بنفسه عن قرار الحل، ويلقي المسؤولية على ساسة العراق الجدد، وهو عندما فاتحهم في الأمر لم يسجلوا رفضهم خطوة كهذه. قال القادة الكرد: “ينبغي أن يجتث الجيش من جذوره”، ورأى القادة الشيعة “أنه جيش صدام، وحله مطلوب”.
لم يتم حل الجيش بناء على رغبة هؤلاء، ولا أولئك، فهم أضعف من أن يقرّروا شيئا. أحد السياسيين الأكراد اعترف بأنهم، وإن رحبوا بالقرار، إلا أنهم لم يكونوا في وارد الرفض أو القبول، إذ كان عليهم الإذعان لما يقرره الأميركيون، وقد أذعنوا كعادتهم، ولم يتعلموا من نوري السعيد، السياسي العراقي الأبرز في عهد الملوك، الذي رفض طلباً بريطانياً مماثلاً لحل الجيش، قبل أكثر من سبعة عقود، في أعقاب حركة الضباط القوميين في مايو/ أيار عام 1941، وأصرّ آنذاك على بقاء الجيش، لإدراكه أنه يمثل صمام الأمان لوحدة البلاد، وهويتها الوطنية الجامعة.
للإنصاف أيضاً، نسجل أن قرار الحل لم يكن من بنات أفكار بريمر نفسه، وإنما اتخذ في واشنطن قبل الغزو بوقت طويل، وكان معارضو صدام يعرفون مسبقاً به، وقد جاء تحقيقا لهدف سعت إليه إسرائيل، وفي ذاكرتها أن جيش العراق شارك في توجيه الضربات لها في الحروب الثلاث التي خاضها العرب ضدها، وأنه أطلق 39 صاروخاً على مدن “إسرائيلية” في حرب الخليج الأولى، وكان صدام حسين قد اعتبر كل مدن إسرائيل أهدافاً مشروعة لجيشه.
باركت إيران القرار، وعملت، عبر دوائر أميركية صديقة، على التعجيل به، وفي ذاكرتها، هي الأخرى، صورة الجيش الذي قاتلها ثماني سنوات، وأجبر قادتها على تجرّع كأس السم، وتعاونت مع مليشيات عراقية تابعة لها على تصفية قياداته وكوادره، في حملات اغتيال، وخطف، وتهجير موثقة ومعروفة.
قال بريمر إن الإنجليز استشيروا في قرار الحل، وأعطوا دعمهم المسبق له، ورأوا فيه نوعاً من الثأر لما كانوا واجهوه في واقعة مايو/ أيار، والتي بدا أن تفاصيلها ما زالت طرية في أذهانهم.
كانت كل هذه الأطراف تعتبر بقاء جيش العراق، وبعدما وصل تعداد منتسبيه إلى المليون، وأتقن فنون التعامل مع السلاح الحديث والمتطور، واكتسب خبرات عريضة على امتداد تاريخه، خطراً على مصالحها في العراق وفي المنطقة. ولذلك، تآمرت على حله، وتوافقت على اجتثاث ضباطه وجنوده.
يستعيد العراقيون، اليوم، حكاية البدايات، عندما استحدث المؤسسون الأوائل فوج موسى الكاظم، قبل أقل من قرن، ليكون نواة قوة عسكرية مقتدرة للدفاع عن البلاد، وهم يشهدون بأم أعينهم كيف أصبح ظهر العراق مكشوفاً أمام الآخرين، وسهل دخول الغرباء إليه، وأغرى ذلك 14 دولة، لأن تزج بوحدات عسكرية إليه، بحسب الإحصاء الذي نظمه زميلنا عثمان المختار، لتشكل موطئ قدم، يضمن لها حصة في “الكعكة” العراقية، عندما يحين أوان القسمة والحساب، كما دفع عشرات المليشيات المحلية التي تتبع كل منها طائفة، أو عرقاً، أو عشيرة لترفع راية الولاء لهذه الدولة أو تلك، وتتنازع فيما بينها على السيطرة على هذا الموضع أو ذاك، أو تختلف على أبوة نصرٍ لم يكتمل، مثل ما حدث بعد استعادة الرمادي، ولا يجد العراقيون بين كل تلك المجاميع والجيوش جيشاً وطنياً واحداً يرفع راية الولاء للعراق ولأهله. هنا تتملّكهم الحسرة على أيامٍ سالفات، ويتمنون أن لو كان جيشهم الوطني حاضراً اليوم لما حدث ما حدث.
لكن لو لا تنفع، مع الأسف.

عبداللطيف السعدون

صحيفة العربي الجديد