أثبت نص الاتفاق بين روسيا ونظام الأسد أن الثورة السورية أسقطت النظام المذكور، منذ سنتها الأولى، وأن كل المراحل التالية كانت مجرد تنويعاتٍ على الهزيمة، تمظهر ذلك في موجة العنف المنفلتة لنظام أفل، أو في استدعاء عناصر الفوضى الممثّلة بالتنظيمات المتطرفة، وصولاً إلى استدعاء إيران وأذرعها في المنطقة. ومع عدم كفاية هؤلاء، ونفاد جهودهم، وتأكد نظام الأسد أن حكم سورية آيل للثوار الذين تصدّوا له، كان لا بد من الذهاب بعيداً في تعقيد المشكلة، واللجوء إلى الخيار الروسي، نوعاً من الانتقام الأبدي من سورية وشعبها الثائر على حكم آل الأسد.
على مر سنوات، كان الطاقم الدبلوماسي لنظام الأسد يتفاخر بقدراته على إغراق الخصم بالتفاصيل، فالمفاوضات ملعبهم ومربط خيلهم، كانت ضحكات وليد المعلم المطمئنة رسائل من رجلٍ يريد الإيحاء منها أنه مخترع التكيكات الدبلوماسية في العالم المعاصر، وأنه واضع أساليب التفاوض وقواعد إدارة المباحثات، بل إن علماء السياسة الذين وضعوا نظريات اللعب في السياسة الخارجية وفن التفاوض، في العقود الأخيرة، إما كانوا قد استشاروه قبل وضع ركائز نظرياتهم، أو أنهم استوحوا خطوطها العريضة من قفاشاته العبقرية!.
لكن نص الاتفاق “الفضيحة” الذي سربته روسيا لتثبت ملكيتها سورية، يكشف عن أحد احتمالين خطيرين: أن الطاقم الدبلوماسي السوري لا يفهم أن السياسة الخارجية هي القوة الناعمة للدول في العصر الحديث، ومهتمها تحقيق مصالح الدولة والحفاظ على سيادتها، عبر التفاوض والوسائل الدبلوماسية عموماً، وهذا يحتم عليها العمل باحترافية ومهارة. أو أن المجال الدبلوماسي في سورية لم يكن سوى واجهة تقف خلفها أجهزة الأمن ذات الخبرات السياسية المتدنية، وخصوصاً في مجال إدارة العلاقات الدولية وتشابكاتها وتعقيداتها، بدليل أننا لم نلحظ أي ظل، خفيف أو ثقيل، لوليد المعلم في نص الاتفاق.
بشأن الاحتمال الأول، وعلى الرغم من أن التاريخ الدبلوماسي لسورية الأسد مليء بالإخفاقات، ولم يشهد تحقيق إنجاز دبلوماسي واحد، على الرغم من كثرة جولات التفاوض، مع إسرائيل وتركيا، وكان الإنجاز الوحيد الملموس هو استخدام المفاوضات وتوظيفها في خدمة هدف سياسي أكبر، هو المحافظة على النظام أطول مدى ممكن، وكان ذلك يتم بالصرف من رصيد سورية وحقوقها في الأرض والمياه والدور الإقليمي “رشى وهبات”. على الرغم من ذلك، كان يمكن حصر التنازلات ضمن نطاقات محدّدة، مع بقاء مساحة يستطيع نظام الأسد اللعب فيها، حتى لو تمثّلت بالملفات التي يطلق عليها بين أجهزة الاستخبارت الدولية “الملفات القذرة”، مثل إضعاف منظمة التحرير الفلسطينية، أو ضبط لبنان عبر الهيمنة عليه بالإرهاب. وفي المجمل، كان الآخرون يمنحون لنظام الأسد هامشاً صغيراً، لقاء هذه الأدوار، للمزاودة على الشعبين، السوري والعربي.
لا يمنح الاتفاق الروسي مثل هذا الهامش، وكأنه غير معني بالاستمرار السياسي لهذا النظام، أو
يمكن القول إنه يشكل قطيعة بين ماضيه ومستقبله، الأمر الذي يثير التساؤل حول ماذا يريد نظام الأسد الذي خسر معظم أراضي سورية، وجزءاً كبيراً من حاضنته السياسية؟، خصوصاً أن نص الاتفاق يجرّد عنه صفة النظام السياسي، ويحوله إلى مجرد منظومة تابعة، تسلم أوراقها للمشغل، وتتهيأ لإرسال رأسها إلى المنفى، مثل وديعةٍ يجري تسليمها واستلامها. لم يذكر نص الاتفاق طريقة نفي الأسد، لكنه بين السطور يتحدث عن نهاية زمنه، ويركّز على الوضع القانوني للوجود الروسي، في مواجهة أي نظام سوري آت، وقد يكون من المفارقة أن روسيا، التي يبدو أنها بصدد منع ظهور بديل لنظام الأسد، أكثر الأطراف تحسباً لتلك المرحلة، بل أنها الوحيدة التي تملك ترتيبات عملية لتلك المرحلة.
على ذلك، بات نظام الأسد، أو ما تبقى منه، على ثقةٍ بأن فرصته في استعادة حكم سورية باتت مستحيلة، وأن هذا الأمر شكل المحرّك الأساسي لصياغة هذا النمط من عقود التسليم للبلد، إذ على الرغم من العيوب الظاهرة في هذا العقد، إلا أنه يحقق أمرين لمنظومة الأسد. الأول الانتقام من الشعب السوري الذي ثار عليه، وهو ما تفعله الحملة الروسية الآن، والتي وفق التقارير الميدانية تركّز كل مجهودها على صناعة مزيد من الدمار العشوائي والقتل الممنهج لمزيد من السوريين، من دون هدف سياسي واضح. والأمر الآخر هو حماية البيئة الحاضنة للأسد مستقبلاً، تحت ظل الأدوات الروسية (مطار حميميم وقاعدة طرطوس).
لا ينطوي الاتفاق المذكور على تذاك دبلوماسي روسي، فلم يكلف الروس أنفسهم حتى عناء التشاطر، ولا ينطوي على هفوةٍ ارتكبها المفاوض السوري، حيث علمنا التاريخ الدبلوماسي أن ذلك يحصل عبر ترجمة مختلفة، أو تفسير متباين، لكلمة، أما أن يأتي نص كامل من سبع صفحاتٍ بلغة فجة وصادمة، ذات طابع عقاري صرف، فذلك ما هو أكبر بكثير من خطأ، هو عملية بيع واضحة على أساس خيار سياسي فحواه الانتقام من سورية، خيار يلجم قدرات وليد المعلم وتكتيكاته التفاوضية، ويلغي مفاعيل ضحكاته الاستفزازية، ويطويها مع التاريخ الآفل، لكن السؤال الذي يلطم العقل، ويكشف تخلف منطق السياسة الدولية هو: هل ثمّة إمكانية أن يكون في القوانين الدولية هذا النمط من القواعد القانونية التي تبيح حروب الإبادة ضد شعبٍ، لمجرد أن حاكماً، شرعياً أو ليس شرعياً، سمح بهذا الأمر؟
غازي دحمان
صحيفة العربي الجديد