استعادت الولايات المتحدة إيران وكوبا، وفي ذلك يتشكل مشهد عالمي وإقليمي جديد، فإيران تعود سياسياً وجيوسياسياً إلى ما قبل 1979، ولن يضيف شيئاً إلى المشهد التغير الداخلي في إيران إن حدث، ففي جميع الأحوال، ومهما كانت طبيعة النظام السياسي والاجتماعي، فإن إيران (الدولة) تعود إلى ترتيب سياساتها ومصالحها وفقاً للمحاور والأحلاف والأدوار التي كانت سائدة قبل الثورة الإيرانية. وفي ذلك، فإن تحولات كبرى وجوهرية تبدو قادمةً، ويمكن تقديرها مستمدة من سؤال بديهي: ما معنى انتهاء العداء بين إيران والولايات المتحدة والغرب؟ الحال أن التصدي لإيران ومواجهة تهديداتها المحتملة أو حضورها المؤثر في الخليج والشرق العربي كانت تديره، وتتكفل به الولايات المتحدة، واليوم تنسحب؛ بل ويبدو ذلك واضحاً وعملياً منذ عام 2001 في الحرب على القاعدة و”طالبان” ثم في عام 2003 في الحرب على العراق،.. ونتذكّر هنا مقولة وزير الخارجية السعودي السابق، الأمير الراحل سعود الفيصل، عندما قال إن الولايات المتحدة قدمت العراق إلى إيران على طبق من الفضة! وكتب عبد الرحمن الراشد في صحيفة الشرق الأوسط (29 مايو/أيار2007) مقالاً بعنوان “هل يبيع الأميركيون العراق إلى إيران؟”. إذن، ليس القلق السعودي والخليجي والعربي من التمدد والتهديد الإيرانيين جديداً. وبالطبع، شكّل الاتفاق بين إيران والغرب، والذي يبدو شكلياً حول الملف النووي، لكنه يتجاوز ذلك إلى سياسات ومصالح ومواقف جديدة، شكّل إعلاناً عملياً واضحاً لتحالفات جديدة ومواجهات جديدة أيضاً.
التقطت إيران وروسيا أنفاسهما، منذ أحداث “11 سبتمبر”2001، تحولتا إلى شريكين مهمين مع الولايات المتحدة في مواجهة “الإرهاب”، ثم تضاعف أسعار النفط والغاز، وصعدت دول جديدة أخذت دوراً مهماً ومستقلاً عن الولايات المتحدة؛ مثل البرازيل وجنوب أفريقيا، .. وكانت الحرب في العراق، ثم الأزمة المالية العالمية، هزيمة كبيرة للولايات المتحدة، وسياساتها الاقتصادية والسياسية.
ومضت السياسة الأميركية في ما أعلنه الرئيس باراك أوباما بوضوح، في برنامجه الانتخابي (2008) الانسحاب من العراق، .. ثم ظهر ما لم يكن واضحاً، إعادة المنطقة إلى ما كانت عليه قبل الأزمة. المسألة ببساطة أن حالة عدم الاستقرار والصراعات بدأت في متوالية ناشئة عن، أو مرتبطة بالتحولات الإيرانية عام 1979، الغزو السوفييتي لأفغانستان، ثم الثورة المناهضة لنظام الحكم المتحالف مع السوفييت، والحرب العراقية الإيرانية، ثم ما تبعها من سلسلة معقدة من الأحداث، حرب الخليج الثانية التي أعقبت الغزو العراقي الكويت (1990) وصعود العنف المسلح المناهض لأميركا في العام متوجاً بأحداث “11 سبتمبر” 2001، فغزو أفغانستان والعراق،… وبطبيعة الحال، يبدأ تفكيك الأزمة بإعادة الأمور إلى ما كانت عليه، .. أن تعود إيران حليفاً للغرب، وجزءاً من منظومتها السياسية والإقليمية، وهذا ما يحدث/ حدث اليوم!
سوف تجد كل من باكستان وتركيا مصالح وأولويات كبرى في التحالف والمشاركة مع إيران
لأجل تنسيق الأدوار الإقليمية، والمصالح في آسيا الوسطى، والتوازن مع الهند والصين وروسيا، والولايات المتحدة أيضاً في حاجة إلى ترميم هذا الحلف (سنتو) وصيانته، والحال أنه حلفٌ لم يتوقف عملياً عن الفعل والتأثير، على الرغم من كل ما أحاطه من تصدّع أو تغييب رسمي، .. ربما تكون إيران ابتعدت قليلاً، لكن باكستان وتركيا كانتا على الدوام دولتين إقليميتين فاعلتين في مواجهة الاتحاد السوفييتي، ثم روسيا، وفي حضور ميداني وعملي فاعل على مسرح آسيا الوسطى والشرق الأوسط، .. وبالمناسبة، لم تتوقف تركيا عن رعاية المؤسسات الدينية والثقافية في دول آسيا الوسطى (تركمنستان، وكازاخستان، وقيرغيزيا، وأوزبكستان، وطاجيكستان)، والتي تنتمي جميعها، عدا طاجيكستان، إلى الأمة التركية منذ انضوائها في الإمبراطورية الروسية ثم السوفييتية ثم استقلالها. وحتى في عهد مصطفى كمال، ومن جاء بعده، لم تتوقف هذه الرعاية، .. ولم تتوقف المشاركة التركية الإيرانية الباكستانية طوال العقود الماضية، حتى في ظل الثورة الإيرانية وعدائها الولايات المتحدة.
وبالنسبة للدول العربية في الخليج والشرق العربي، فهي تبدو متأثرةً، على نحو كبير، بسبب التدخل الإيراني المقلق في العراق وسورية ولبنان واليمن، والقلق الدائم من تأثيرها، أو تدخلها في الخليج العربي المقابل لها. انسحبت الولايات المتحدة من المواجهة المباشرة مع إيران، ولا تبدو الدول الصديقة/ الحليفة، (مصر وتركيا وباكستان) راغبة في المواجهة مع التمدد الإيراني، .. ولكن، ويا للمفارقة، تبدو اليوم روسيا، ثم الهند، أمل الشرق العربي في المواجهة والتوازن مع إيران.
ربما تنسحب إيران من الحضور المباشر في الدول العربية، .. لكنها ستظل مؤثرة على نحو مقلق، .. وما يزيد القلق منها أنها تبدو جهة تقصدها/ سوف تقصدها دول يعوّل العرب المشرقيون عليها في المواجهة، وأعني مصر وتركيا وباكستان، ..
ليس المشهد مظلماً ولا يدعو إلى التشاؤم، وليس تهديدا كبيرا، فمن قال إنه يجب الدخول في مواجهة مباشرة استنزافية مع إيران، حتى في حال حضورها/ تورّطها المباشر في الشرق العربي؟ ومن قال إنها ستظل متورطة في المرحلة الجديدة، أو أنها قادرة على مواصلة التدخل، وتحمل تكاليفه؟
إبراهيم غرايبه
صحيفة العربي الجديد