على الرغم من قدم العلاقات العربية الهندية وتطورها تاريخيا، إلا أنها لم تسهم في تطوير معرفتنا بتاريخ الهند وثقافات شعوبها في المستوى الذي يوازي عراقة هذه العلاقة، ربما بسبب كثرة اللغات والقوميات في الهند، والتركيز على الجانبين الاقتصادي والسياسي في هذه العلاقة. من هنا كان لا بدّ للترجمة أن تعمل على سدّ هذا النقص والتعويض عن الجهل بتاريخ هذه الثقافات، وأطوارها التي مرت بها.
يركز المؤرخ الهندي عرفان حبيب على دراسة جوانب كثيرة تتعلق بالتنظيم السياسي والدين والتعليم والفنون إضافة إلى الاقتصاد والتكنولوجيا والبنى الاجتماعية، عبر المراحل الثلاث التي امتدت على قرنين ونصف القرن من الزمن، وكانت العصور الوسطى التي تعتبر محور اهتمام الباحث في هذا الكتاب هي أهمها.
نظام الإقطاع الهندي
يذهب أحد المؤرخين الهنود إلى القول بأن انتشار الحرف والأعمال اليدوية في القرى أضعفت من اعتمادها على المدن، ما شكل حجر الأساس لظهور النظام الإقطاعي في فترة كانت تتراجع فيها سلطة الدولة المركزية وتتشكل فيها الطبقات الأرستقراطية المحلية. لقد تطور النظام الإقطاعي في الهند بفعل عوامل عديدة طرأت على طريقة تنظيم الجيش وتقنياته، وقادت إلى استبدال العربات بفرق الخيالة، التي قامت باقتطاع القرى لحسابها ومن ثم توريثها، ما أدّى إلى نشوء طبقة من المتنفذين أو الملوك، في حين شهد جنوب الهند ظهور كيانات سياسية لا مركزية، ساهمت في التأسيس لقيام الدولة المجزأة.
الفترة الممتدة بين القرن السادس والعاشر الميلادي تعد فترة الازدهار الفلسفي للديانة البراهمية، بعد أن تولى عدد من فلاسفتها الدفاع عن المفاهيم العملية والطقوس، التي تتضمنها نصوص الفيدا
هذا النظام كما يراه الباحث عرفان ارتبط اجتماعيا ببعض التغيرات في النظام الطبقي، الذي غدا أكثر صلابة واتخذ طابعه الكلاسيكي، لكن التشدد في هذا النظام انعكس على العادات القاسية المفروضة على النساء مثل إحراق الأرملة عند الطبقات العليا. رغم ذلك ووجه هذا النظام بمقاومة شديدة أدّت إلى حدوث تغيرات على المستويات المختلفة.
بين الدين العلوم
بدأت نهضة العلوم في تلك المرحلة كما يراها الباحث مع ابتكار الصفر ونظام القيمة العشرية للأعداد، في القرون الأولى للميلاد، لكنها لم تستخدم في الكتابة العادية والحساب إلا في أواخر القرن السادس. هذه الإنجازات فتحت الباب أمام علماء الرياضيات لتطوير الإنجازات الأولى، كما ظهر ذلك في علم الجبر والحساب ونظرية الأعداد، تلبية لمتطلبات الحياة اليومية.
الديانة البوذية بأنماطها القديمة واللاحقة ظلت هي المسيطرة حتى القرن الحادي عشر، الذي شهد نموا وتطورا لدى البراهمة وطوائفهم، نظرا لما كانت تتضمنه من قوانين وطقوس اجتماعية، كانت تنظم حياة الناس، ولا سيما على صعيد الطبقات، بعد أن نظمت الأسس الدينية والطقوس بالنسبة إلى كل طبقة.
الفلسفة البراهمية
تعد الفترة الممتدة بين القرن السادس والعاشر الميلادي فترة الازدهار الفلسفي للديانة البراهمية، بعد أن تولى عدد من فلاسفتها الدفاع عن المفاهيم العملية والطقوس، التي تتضمنها نصوص الفيدا، وإعادة صياغة تقاليد الفيدات، بصورة تصبح معها أكثر تناسقا وانسجاما. أما الديانة البوذية فقد انعكس التدهور الذي شهدته بشكل بالغ على مكوّناتها الأساسية. وعلى الرغم من هذا التعدد والتنوع في الطوائف والمدارس الفكرية البراهمية والجاينية والبوذية على صعيد المعتقد والمبادئ، فقد ظل التعايش السلمي قائما في ما بينها، بينما كانت المناظرات الفكرية والجدل حول القضايا الخلافية، هو الإطار الوحيد لهذه الاختلافات والنقاش حولها.
ويؤكد الباحث أن دخول الإسلام إلى الهند في أوائل العهد الوسيط يعدّ من المتغيرات الرئيسية، فقد عمل الفاتحون المسلمون على إرساء مبدأ التعايش بين المسلمين وغير المسلمين من أهل السند، لكن نشوء الخلافة الفاطمية في شمال أفريقيا، أدّى إلى حدوث نشاط شيعي قوي هناك، جعل جنوب البنجاب الخاضع لسلطة القرامطة الإسماعيليين يدخل في تحالف مع الفاطميين، ما تسبب في القضاء عليهم تقريبا خلال الحملة التي قادها محمود الغزنوي، وإن كان لم يستطع القضاء نهائيا عليهم. الصوفية التي اكتسبت شكلها الكلاسيكي، ظهرت في ظل سيطرة محمود الغزنوي، التي انتعشت خلالها الصوفية بقوة في الهند.
أدب بلغات متعددة
عرفت الهند عددا كبيرا من اللغات، كانت أهمها اللغة السنسكريتية التي تطورت حتى أصبحت لغة الرهبان والإداريين والكتاب والمثقفين الهنود، ما جعلها تحل محل العديد من الأشكال المختلفة للغة الباركريتية، وقد امتدت سيطرتها حتى نهاية القرن الثاني عشر، حيث بدأت اللغة الفارسية الوافدة التي جعلت منها الدولة الغزنوية لغة رسمية تتقاسم معها هذه المكانة.
عاش الأدب السنسكريتي مرحلة ازدهاره خلال القرون الستة الأولى من العصر الوسيط، ويقدم الباحث تعريفا بأهم أدباء تلك المرحلة وما قدموه من أعمال، وعلاقة هذا الأدب بالدين. أما في ما يخص الفنون فإن الفن المعماري القائم على الحجارة والصخور قد شهد تطورا واضحا، لا سيما في بناء المعابد، وكانت التقاليد المعمارية في بناء المعابد تتوزع على نوعين هما النمط الهندي الآري، والدرافيدي الجنوبي.
أدب الثقافة الرفيعة
يفرد الباحث للأدب الفارسي والسنسكريتي حيزا خاصا، بسبب كون اللغتين اللتين كتب بهما، كانت تخص الطبقة الرفيعة في المجتمع، ورغم أن الفارسية لم تكن لغة المحادثة، إلا أن عدد القادرين على القراءة والكتابة بها كان يفوق عدد الإيرانيين، لقد تجلت الإسهامات الهندية في صناعة المعاجم الفارسية والنثر، لكن الأدب الديني ظل يشكل النسبة الأكبر، أما على صعيد الشعر فقد كان الإسهام الهندي واضحا في الشعر الفارسي إلى جانب الشعر التأريخي، الذي كان يحظى بإقبال القراء عليه، وكتابة الحكايات والقصص الخرافية والأساطير باللغة السنسكريتية. لكنه بدءا من القرن السادس عشر سيظهر نضوج الآداب المكتوبة باللغات المنطوقة جليا، في حين تأخر تطور اللغة الأدبية الهندية الحديثة.
عهد السلطنات
تعدّ سلطنة دلهي وقبلها سلطنة محمود الغزنوي من أول من أنشأ مؤسسة الإقطاع ومؤسسة الخراج، لكن هذه السلطنة أخذت في ما بعد بالتفكك، رغم توسعها الكبير في مرحلة سابقة. قيام هذه السلطنات لم يلغ الكثير من المؤسسات التي ورثتها من نظام الإقطاع، كما لم يتم المس بنظام الطبقات بغية الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي، ما ساهم في النمو الملحوظ للتجارة الخارجية الهندية، ونجم عنه حدوث بعض العمليات الهامة المتعلقة بنشر التقنيات والتطورات التكنولوجية مثل اختراع دولاب الغزل في القرن الرابع عشر، إضافة إلى صناعة الورق. هذا الواقع نتج عنه اتساع نطاق استرقاق أسرى الحروب، والعاجزين عن دفع الضرائب.
الديانة البوذية بأنماطها القديمة واللاحقة ظلت هي المسيطرة حتى القرن الحادي عشر، الذي شهد نموا وتطورا لدى البراهمة وطوائفهم، نظرا لما كانت تتضمنه من قوانين وطقوس اجتماعية
يعترف الباحث أن ما كتبه البيروني عن علوم الهند ودياناتها وتقاليدها حافظ على منهجيته بصورة لا تضاهى، لكنه يشير إلى تحول هام سلبي على صعيد المنهج العقلاني والعلمي قد حدث، وسببه موقف الغزالي من الفلسفة، إذ حظيت كتبه وآراؤه برواج واسع في تلك المرحلة، الأمر الذي انعكس سلبيا على واقع العلوم في الهند، حيث لم يسلم منه سوى الفلك والطب، اللذين استفادا كثيرا من التراث اليوناني والإسهامات الجوهرية العربية فيهما. ومن الملاحظات التي يسجلها أن قيام السلطنات لم يكن له تأثير مادي على الأدب السنسكريتي، ما جعل تأثير العربية والفارسية يظل محدودا.
الدين والطوائف
على الرغم من تعدد الطوائف الهندوسية واختلافها، إلا أنها ظلت تشترك بنفس التعابير الاصطلاحية، وبنفس الآلهة بسبب تطورها الذي نشأ من خلال تفاعلها واعتمادها على اللغة السنسكريتية، وقد ظلت النصوص البراهمية التي شكلت العناصر الأساسية للهندوسية سائدة أثناء حكم المغول.
ويعرض الباحث للعديد من المؤلفات الدينية، إضافة إلى الحركات والطوائف الدينية الأخرى مثل طائفة الجاينية والحركة التوحيدية، التي تأثرت بالإسلام ورفضت عبادة الصور والتقرب من الله بالحب. ومن الأديان التي يتعرض لها الباحث ديانة السيخ التي ظهرت في القرن السادس عشر، على شكل طائفة كان معلمها ناناك من أفراد طبقة المحاسبين والتجار في البنجاب، وكانت أقرب ما تكون إلى الحركة التوحيدية. وهناك أيضا الإسلام الذي ظل مرتبطا من الناحية الأيديولوجية بالتيارات الإسلامية الرئيسية، لكن ارتباط الإسلام الهندي ظل قويا مع إيران وآسيا الوسطى أكثر من ارتباطه مع البلدان العربية، وقد وجدت الصوفية في الهند أرضا مناسبة لانتشارها.
مفيد نجم
صحيفة العرب اللندنية