العالم حروب مستدامة

العالم حروب مستدامة

1453763419_600

إذا كان القرن الفائت حافلاً بالحروب والانقلابات الإمبراطورية، وتفاقم المجاعات والجائحات، ومعسكرات الموت وكرنفالات الدم المتنقلة (بخاصة في الشرق الأوسط)، فإن القرن الحادي والعشرين هذا استمر بها، وعلى نحو أكثر درامية ومأسوية وفحشاً وتوحشاً؛ وبدا أن البشرية “المتحضرة” و”المتطورة” لم تفشل في التمهيد لتحقيق مشروع السلم العالمي الشامل والموعود فقط، وإنما تبيّن عقم الرهان على سياسات هؤلاء، وخططهم المستقبلية بشأن الإنسانية. ولست أشير، هنا، إلى مرحلة سياسية غربية بعينها، وإنما إلى نظام سياسي غربي بكليته، بدأت مفاعيله تترى، بسياسات مغايرة عما يفصح عنها منذ عقود طويلة. فقد اتضح أن هذا الغرب “المتقدم جداً” أو “المتطور جداً” يتعامل مع التاريخ (مثلما تعاملت معه إمبراطوريات سابقة آفلة) تعاملاً غائياً محدّداً، يقوم على اعتقاد مفاده بأن العالم يتحرك على نحو غرضي، صوب غاية محدّدة مسبقاً، وأنه وحده يرسم معالم هذه الغاية وآفاقها، بمعزل طبعاً عن شركاء آخرين له في الإنسانية على سطح هذا الكوكب. لهم أيضاً طول باع في مسائل التقدم العلمي والتقني ونظم ترجمة انفجار النظريات العلمية بتطبيقاتها الهائلة، وبخاصة في الشرق الأوسط البعيد والقريب: اليابان، الصين، الهند.. مثالاً لا حصراً.

واتضح أكثر أن مستقبل البشرية على يد هذا الغرب “المتقدم” بات أكثر خسفاً ورعباً ودماراً وتدميراً للإنسان والكوكب على السواء، فهو لم يزل يشنّ حروب الإبادة الكارثية على الشعوب الأخرى، سواء بطرق مباشرة أم بالواسطة، وينزع إلى تقاليد الجاهلية الرومانية القديمة في إطاحة كل شيء، مكرساً لغة القوة والسيطرة ببذخ استعراضيٍّ، لا نظير لانحرافاته وتغطّرسه.
أكثر من ذلك، بات هذا الغرب الكولونيالي، وبمزيدٍ من السخرية القاسية، يعيد إنتاج مختلف صور انحرافات جاهليته الرومانية الغابرة، خصوصاً لجهة ممارسة نظرية العدل وتطبيقها لديه، فإذا عدله الروماني الشهير، يكاد يقتصر عليه وحده. أما باقي عبيد المستعمرات.. مستعمراته، فهم غير جديرين بهذا العدل، وترجمة مفاعيله على الأرض، ودائماً يُنكلّ بهم، ويًمثّل بعقولهم وأجسادهم، على أنغام تلك الأنشودة الرتيبة المملة: الحرية، الديمقراطية، الشفافية، حقوق الإنسان، إنجازات الحداثة المبهرة… إلخ.
لا تعرف هذه الحضارة الرومانية المتجدّدة أن تنتمي إلا إلى تقاليدها هي، ومفاهيمها هي، وسياساتها المعلنة والمضمرة هي، منذ سحيق التاريخ، مهما اختلفت الأدوات، وتغيرت الشعارات والعناوين. إنها لا تنظر، مثلاً، إلى الآخر، إلا كعقل جمعي عاجز دائماً، ولا يقوى على شيء، حتى على أن يكون أداة محايدة للمعرفة المنتجة بحدها الأدنى، إلا إذا انتمى إلى جنتها، وتطلّب معاييرها، واكتسى بأخلاقها وتمأسس على ما تقوله في استمرار.
“الحروب لن تتوقف في هذا العالم، مهما كانت عليه أشواق مناهضي الحروب وقوتهم المعنوية، والإضمارية، ونسبتهم التي تتزايد، وعلى نحو أسطوري، يوماً بعد يوم”

إذن، الحروب لن تتوقف في هذا العالم، مهما كانت عليه أشواق مناهضي الحروب وقوتهم المعنوية، والإضمارية، ونسبتهم التي تتزايد، وعلى نحو أسطوري، يوماً بعد يوم، وبالاستناد، طبعاً، إلى مبررات السياسة والاقتصاد، والصراع المدفوع بهما للسيطرة على العالم… وعلى أية حال، ستظل هذه السيطرة المفترصة على العالم وهمية، حتى ولو صارت واقعية وماثلة.
وإذا كان هيغل، أكبر فلاسفة القرن التاسع عشر (1770- 1831)، والتي لا تعني الفلسفة لديه، أصلاً، إلا منهجاً لفهم حركة التاريخ البشري، من قال، ليس في مسألة استمرار الحروب فقط، وإنما في التنظير لضرورتها حاجة حضارية، باعتبارها “الحقيقة التي تستفز الشعوب، وتحقق عبرها الأمم قفزات، لم تكن لتحدث لولاها (أي الحروب)، بينما تعتبر فترات السلام خالية من المنجزات والأحداث الحقيقية”.. إذا كان هيغل قال بذلك، ووجد في نابليون أنموذجه العظيم الممثل لروح العالم: “رأيت الإمبراطور، روح العالم على حصان مطهم”… وكان هيغل قد رأى نابليون بالفعل مخترقاً مدينته “يينا” في وسط ألمانيا، فطار لبّه إعجاباً وخيلاء بهذا القائد المطلق، المنتصر لروح الحرية والثورة الآتية لتقويض هيكل النظام الإقطاعي الألماني من أساسه، فكيف نقول بالآخرين، ممن ساروا بلا تنظير وراء فلسفة الحروب المستدامة.. هكذا كيفما اتفق؟ّ!
تصوروا مثلاً جنود الإمبراطور نابليون، وقد ارتكبوا الفظاعات، قتلاً وتدميراً وحرقاً في وطن هيغل نفسه، بل في مدينته، بل حتى في بيته، تصوّروا ماذا فعلوا هم، وماذا فعل هو، إذ رأى فيهم فكراً منقذاً جديداً، وعصراً أنوارياً كاسحاً، لا بدّ منه لخلاص البشرية، وعلى قاعدةٍ فلسفيةٍ جدلية تقول: “كل شيء هو في تناقض مع ذاته ووجوده، وطبيعة الشيء هي التي تدفعه إلى أن تتجدد حالة وجوده إلى حالة أخرى”.
فوق هذا وذاك، كان هيغل قد استقبل جنود الغزو النابليوني في منزله، وقدّم لهم كل ما لديه من طعام وشراب، ولمّا همّوا بقتله، لم يجد حيلة ينجو بها غير قوله لأحد الضباط، وقد شاهد على صدره وساماً رفيعاً: “على من يحمل مثل هذا الوسام الرفيع أن يحترم عالماً ألمانياً مسالماً”؛ فما كان من الضابط الفرنسي وجنوده إلاّ أن تراجعوا عن فكرتهم بالقضاء عليه. ولما وجد هيغل، في ما بعد، أن الفرصة سنحت له، لاذ بالفرار، وفي جعبته مخطوط أهم كتاب لديه: “فنومينولوجيا الروح”. وكم كانت سعادة الفيلسوف غامرةً حين تمكّن، بعد لأي وحذر شديدين، من إيصال المخطوط إلى ناشره في مدينة بامبرغ. وقد علّق على تلك الحادثة المروعة التي جرت لهيغل، لاحقاً، أحد كبار دارسيه، الباحث والناقد هنري إيكن بالقول: “كيف لجنود القائد الأنواري أن يقتلوا نوراً أمامهم؟! ولو عرف الغزاة الفرنسيون أن لدى هيغل مخطوط كتاب يريد أن ينقذه، قبل أن ينقذ نفسه، جرّاء مخاطبته الضابط صاحب الوسام، لما تركوا هذا الفيلسوف ينجو، ولكانوا أعدموا كتابه أمام عينيه مباشرة، قبل أن يُقدموا على إعدامه بالتأكيد”.
ونستدرك فنقول، إن فلاسفة ومفكرين عديدين ردّوا على فلسفة هيغل السياسية والمُبرّرة للحروب، في طليعتهم كارل ماركس، الذي كان أول من وصف فلسفة هيغل السياسية بالمثالية والميتافيزيقية، خصوصاً في كتابه: “ملاحظات في نقد الفلسفة الحق عند هيغل”.
وممن تلا ماركس، وفصّل أكثر في الردود على مثالية هيغل وميتافيزيقيته، النقاد والفلاسفة: جورج لوكاتش، هربرت ماركيوز وتيودور أدورنو (كلهم من أتباع معلمهم ماركس) ووصفوها بالشطح الميتافيزيفي الذي آن له أن يترجل أمام الواقع الدامغ لأدوار الاقتصاد والسياسة والإدارة الجماعية في حياة الشعوب والأمم. وذهب الفلاسفة الليبراليون أكثر في إدانة فلسفة هيغل السياسية المثالية، ووصفوها بأنها تمادت في التنظير للدولة الشمولية التسلطية (كارل بوبر، فريدريك هايك، تالكوت بارسونز..وغيرهم)، ومهدت، بالتالي، لصعود النازية ذات التوجّه القاطع في إشعال الحروب وتكريس جنونها.
مقطع القول، من الخداع الفكري أن نزعم أن البشرية اليوم تتقدم في مسارها الخيطي الزمني لأجل الإنسان وطموحاته ولغزه وأسراره.. ربما هي تتقدم، نعم. ولكن، في اتجاه الكارثة الكبرى التي ستحطّم هذا الإنسان، وهذه الأرض، ومن عليها.

أحمد فرحات
العربي الجديد