توصل المجلس الرئاسي الليبي -بعد مشقة بالغة- إلى تحديد الأسماء المقترحة للوزارة التوافقية لعرضها على البرلمان، إذا ما تمكن من ذلك. ورغم محاولة رئيس المجلس الذهاب إلى أقصى حد لتمطيط معنى مصطلح التوافق، فلا يبدو أنه نجح -حسب التعبير الليبي الدارج- في “سد جميع الحفر”، أي سد جميع الفجوات، لأن هذه الحفر كانت تتوالد مثل انهيارات الحفر في رمال الصحراء.
لقد بدا مصطلح التوافق في الحالة الليبية بكل تعقيداتها ينزلق إلى معان أخرى لا تحيل إلى التوافق، بل تحيل إلى مصطلح آخر هو الابتزاز.
“الابتزاز لا يكون إلا في حالات التأزم وانعدام الخيارات، ولهذا فإن كل من لديه أجندات ومصالح لا يمكن تحقيقها في ظل الأحوال الهادئة, ينتهز فرصة خروج الظروف عن المجرى العادي للأمور فيدفع بمصالحه وأجنداته إلى بؤرة الحدث”
الابتزاز لا يكون إلا في حالات التأزم وانعدام الخيارات، ولهذا فكل من لديه أجندات ومصالح ومنافع لا يمكن تحقيقها في ظل الأحوال الهادئة والمستقرة، ينتهز فرصة خروج الظروف عن المجرى العادي للأمور فيدفع بمصالحه وأجنداته ومنافعه إلى بؤرة الحدث الذي يجري في ظل ظروف غير عادية تعصف بالواقع، كي يتم حشرها في واقع مأزوم ليتم إغراقه إن لم يستطع استيعابها، وتلك حالة من حالات الابتزاز السياسي.
إن خطورة الابتزاز تكمن في أنه إذا ما انطلق من عقاله فإنه -بالنظر إلى الحالة الليبية- لا ينتهى بحل توافقي مهما كان ثمنه، بل يتصاعد في متوالية لا تتوقف ولا تصل إلى الإشباع، فتستنفد كل استجابة ممكنة حتى تصل إلى حالة العجز في تلبية متطلبات الابتزاز، وبالتالي لن تكون النتيجة توافقا واستقرارا، بل حالة أخرى تلخصها قصة قصيرة من التراث الليبي عن “الغول والشايب والعجوز وسبع معزات سود” التي ترويها لنا جداتنا في أمسيات الشتاء الباردة ونحن نتحلق حول كانون النار.
فحوى هذه الأقصوصة الحكمة أن هناك زوجين عجوزين يسكنان في بيت داخل الغابة ولا يمتلكان سوى سبع معزات سوداء، فكان الغول يأتي إليهما كل مساء ليهددهما قائلا: يا شايب يا عجوز، يا سبع معزات سود، أعطوني ما أتعشى به الليلة وإلا آكلكم”، فيعطيانه إحدى المعزات إلى أن أكلهن جميعها، وجاء دور العجوزين فأكلهما.. فلم تنج المعزات ولا العجوزان اللذان ظلا يلبيان ابتزازات الغول كل ليلة، ظنا منهما أنه سيتوقف.
لا شك أن الابتزاز الذي لا سقف له، لا بد أن يصل إلى حالة العبث واللامعقول التي لا تبقي على أحد، وتلك النتيجة هي التي ستصل إليها الحالة الليبية إذا ما تصاعدت الابتزازات ولم يتم لجمها بعقلانيةٍ مرجعيتها العليا الوطن ومصلحة الجماعة، فلا بد أن يدرك المبتزون أن هناك لحظة قادمة لن يجدوا فيها موضوعا عاما يمكن ابتزازه، وأن ما حصلوا عليه سيكون بدوره موضوعا للابتزاز من قبل آخرين.
الحالة الليبية المتعددة الأطراف (مليشيات، جهويات، قبائل، برلمانيون) لم تعد تتحمل متوالية الابتزاز لأنها تكاد تصل إلى نقطة العجز، فقد بدأت في مرحلة مبكرة قبل تشكيل حكومة الوفاق المقترحة ومرت بالمراحل التالية:
مرحلة المجلس الرئاسي: فقد أثارت التشكيلة الأولى للمجلس برئيس وثلاثة أعضاء ردات فعل جهوية في شرق البلاد من قبل أقلية، ولكن صوتها عال وتستطيع في ظل واقع مأزوم واختطافها للبرلمان أن تعرقل الاتفاق السياسي الذي تم التوصل إليه تحت رعاية الأمم المتحدة، ولم يكن بوسع القائمين على الاتفاق تجاهل هذه الأصوات في تلك المرحلة الحرجة من عمر الاتفاق الذي كان ينظر إليه على أنه خشبة الخلاص.
ولأنه لم يكن بالإمكان إنقاص العدد إلى رئيس وعضوين حسب طلب ومنطق الأقلية الجهوية في الشرق، لأن ذلك سيثير ردات فعل مناطقية في الغرب أيضا، فقد زيدَ عدد أعضاء المجلس ليصبح ستة، إلى جانب ثلاثة وزراء مفوضين، لكي يتم إسكات كل الأصوات الجهوية وردم كل الحفر الابتزازية التي تعترض طريق عربة اتفاق المصالحة وترميم الوطن.
تلك كانت البداية أو أولى “المعزات السوداء”، ولكنها وجدت القبول والتبرير لأنه عندما تظهر نقطة ضوء مهما كانت صغيرة في نفق مظلم، فإن الجميع يتدافعون نحوها على أمل الوصول إليها، غير عابئين بما في الطريق المظلم من عوائق. ولكن هذا الطريق المظلم الممتد عبر النفق إلى نقطة الضوء، هو المساحة التي يمارس فيها كل أنواع الابتزاز التي قد تكون نتيجتها نهاية جميع المتدافعين، وعدم قدرة أي منهم على الوصول إلى نقطة الضوء المأمولة.
“كانت الاستجابة للابتزاز الأول (تشكيل مجلس الرئاسة) بمثابة تصرف أملته ضرورات الواقع المأزوم, ولكن ذلك فتح الطريق أمام ابتزاز آخر قد يجعل الرئاسة مؤسسة مشلولة”
لقد كانت الاستجابة للابتزاز الأول بمثابة تصرف أملته ضرورات الواقع المأزوم من أجل إخراج أولى مؤسسات الاتفاق السياسي إلى حيز الواقع، ولكن ذلك فتح الطريق أمام ابتزاز آخر قد يجعل من مؤسسة الرئاسة مؤسسة مشلولة.
انطلقت آلة الطلبات الابتزازية فتم اشتراط أن يمتلك كل عضو في المجلس الرئاسي حق الاعتراض على مشروع أي قرار يخشى أن يطال مصالح من يمثلهم من الأطراف الجهوية أو المناطقية أو المليشياوية، وبالتالي أصبح عمل المجلس الرئاسي تحت رحمة وساوس وشكوك ومخاوف كل عضو من أن تكون الجماعة التي يمثلها ضحية مؤامرة يحيكها عضو آخر في شكل قرار رئاسي.
ولهذا وجب الحذر والتوجس وتفسير أي ظل للشك في مشروع أي قرار على أنه مؤامرة محتملة ضد الطرف الذي يمثله، ولهذا فإنه من الأسلم دائما اتقاء شر مثل هذه الشبهات بالرفض والاعتراض، فللمحافظة على الوضع الذي في صالحك من أي تغيير قد يضر بمصلحتك، فإن أفضل ضمانة لذلك هو كلمة لا.
إن خطورة “الفيتو الابتزازي” تكمن في أن المجلس الرئاسي مطلوب منه أن يتخذ قرارت معقدة تستهدف الوجود غير الشرعي لمليشيات ومصالح لفئات مناطقية وأجندات جهوية تتعارض مع وجود الدولة، وكلها ممثلة في المجلس الرئاسي بأعضاء متوجسين متشككين يقف كل منهم بالمرصاد للآخر، وفوق ذلك مسلحين جميعا بحق الاعتراض.
وهذا ما تجلى في أول جلسة للمجلس حيث تقدم أعضاء المنطقة الشرقية بطلب توفير ضمانات لقوات الجيش وقياداته التي تقاتل الجماعات الإرهابية في الشرق، فاعترض أعضاء آخرون في المجلس من منطلق عقائدي ومناطقي لأنهم لا يرون في هؤلاء جماعات إرهابية بل ثوارا، ومن يحاربهم ليس جيشا وطنيا بل مليشيات.
غير أن هذا المطلب المتعلق بالجيش والذي يحظى بتأييد معظم الليبيين ولا سيما في الشرق، كان بمثابة قاطرة تجر خلفها مطالب جهوية تحت مسمى حقوق برقة التي تذهب تفصيلاتها إلى المساواة في البعثات الدراسية في مرحلة انتقالية أقصى عمر لها سنتان، وأقصى ما تحلم به حكومتها هو محاربة داعش وبسط سيطرتها على الإقليم، فبدا مطلبا تعجيزيا في مواجهة حكومة ليس في إمكانها ولا استطاعتها ولا من صلاحيتها أن تقر ضمنيا نظاما فدراليا تحت ضغط مجموعة من الأشخاص الذين ينتهزون فرصة مأساة التدافع نحو نقطة الضوء ليمارسوا الابتزاز في منطقة النفق المظلمة.
مرحلة حكومة التوافق: وتمثلت في تشكيل الحكومة التوافقية، حيث ولدت الحكومة المقترحة ولادة متعسرة من رحم الابتزاز الذي مارسته المليشيات والجهويات والبنيات القبلية والمناطقية والبرلمانيون، فقد حاول رئيس المجلس أثناء سعيه لإنجاز هذا الاستحقاق، إرضاء كل الأطراف التي -بصرف النظر عن حجمها الحقيقي في الأحوال العادية- تستطيع في ظل واقع مأزوم أن تعرقل هذا الإنجاز.
ولهذا فقد استُجيب لابتزازات كثير من المليشيات التي تختطف العاصمة وتمنع الحكومة من دخولها، واستُجيب لأقلية جهوية تختطف البرلمان وتستطيع عرقلة منح الثقة للحكومة، كما لم يكن بالإمكان تجاوز ابتزازات من قبل قبائل ومناطق في الغرب والجنوب، ولهذا فقد بلغ عدد أعضاء الحكومة أكثر من 32 عضوا إلى جانب الوزراء المفوضين والمجلس الرئاسي، ومع ذلك بدا هذا هو الخيار الوحيد لإنقاذ وطن يتهاوى مهدد بالضياع، والخروج به إلى براح أوسع ومرحلة تستعيد فيها الدولة عافيتها فتختفي فيها كثير من إحداثيات هذا المشهد الشاذ.
“تهديد بعض الأطراف بعرقلة جلسات مجلس النواب ما لم تُلبَّ مطالبهم المتناقضة مع مطالب أطراف أخرى، لا يعني سوى أن هذه الأطراف تريد دفع الوضع إلى حالة العجز أمام تغول الابتزاز”
لا شك أن الاستجابة للابتزاز تستدعي ابتزازا آخر وتفتح شهية المبتزين، وهذا ما بدا من خلال عدم رضى بعض الأطراف على ما حصلت عليه وتلويحها سواء بعدم إقرار الاتفاق أو بمنع الحكومة من تنفيذه على الأرض، ما لم يُستجب لبقية طلباتهم التي يستحيل تلبيتها مع الحفاظ على حالة التوافق، وذلك مثل المطالبة باستبعاد بعض أطراف الاتفاق من الحكومة، وهي أطراف لا يمكن بدون مشاركتها تصوّر نجاح الاتفاق أو الحكومة، لأنها هي أيضا -مثل أي طرف ابتزازي آخر- تستطيع أن تفسد كل شيء.
إن تهديد بعض الأطراف بعرقلة جلسات مجلس النواب لمنع عرض الحكومة على المجلس ما لم تُلبَّ مطالبهم المتناقضة مع مطالب أطراف أخرى تهدد بمنع دخول الحكومة إلى العاصمة، لا يعني سوى أن هذه الأطراف تريد دفع الوضع إلى حالة العجز أمام تغول الابتزاز، لأنه لا يهمهم أن يصل الليبيون إلى نقطة الضوء أو أن يفنوا جميعهم في النفق المظلم.
عندما يصبح الوطن في محنة فإنه يحتاج إلى تضحيات أبنائه لا إلى أنانياتهم، ولكن التضحية تقتضي أولا إدراك قيمة الوطن، وليبيا بالنسبة لليبيين ليست معدومة القيمة في نظري، كما أن الأطراف التي تبتز الوطن باسم من تدعي تمثيله من الليبيين لا تستطيع أن تذهب بعيدا في أنانيتها المدمرة للوطن ما لم تجد مساندة قوية من الليبيين، وذلك أمر في ظني لا يكون.
صالح السنوسي
الجزيرة نت