لبنان “المحتل” في قلب المواجهة

لبنان “المحتل” في قلب المواجهة

لبنان

يُتهم لبنان، الدولة التي تحتلها عمليًا ميليشيا مذهبية مرتبطة بالمشروع التوسعي الإيراني، بالانهزام، في لحظة التصادم المباشر بين إيران والعرب منذ انطلاق عاصفة الحزم في اليمن! ويُتهم بأنه بات في الخندق المعادي للعرب ومصالحهم.. هذان اتهامان وليسا اتهامًا واحدًا.

من غرائب لبنان، التي يبدو واضحًا أن العرب ما عادوا يحتملون التعامل معها، أن موقف وزير في «تجمع حكومات لبنان» لا يعبر عن موقف الدولة. وهذه أحجية في علم الدول والسياسة والعلاقات الدولية.

لنتفق إذن. لبنان ليس دولة إلا في الحدود الدنيا لمفهوم الدولة، وأحيانًا أقل! وما بقي من انتمائه إلى صنف الدول، محتل ومغلوب على أمره، ومُتنازع، ليس فقط بين أقطاب الصراع الكبير في المنطقة، بل بين هويات وطنية متناقضة ومتعارضة!

أي ادعاء آخر، يعقد النقاش حول السياسة العربية، والخليجية تحديدًا، والسعودية على وجه أدق، تجاه لبنان، ويغشي الرؤية والأهداف والأدوات الواجب اعتمادها لأي سياسة!

ومن علامات الغشاوة الآن وارتباك السياسة حيال هذا الوطن الصغير، الدعوات إلى مقاطعته ومقاطعة أهله، والافتراض الظالم أن لبنان مقصر في المواجهة مع إيران ومشروعها!

الحقيقة أن لبنان، اللبناني والعربي، تصدر منذ عام 2005 المعركة التي يخوضها العرب مباشرة في اليمن وسوريا وجزئيًا في العراق. ومنه بدأ مسلسل الأثمان الفادحة، حين قرر «المشروع الإيراني» إزاحة رفيق الحريري بما هو صمام أمان عروبة البلد، مفتتحًا أعنف وأطول حرب استنزاف على الوطنية اللبنانية منذ عام 1943!

من المفيد تذكر فداحة الأثمان التي دفعها ويدفعها لبنان، فالنخبة السياسية والإعلامية والأمنية التي جرى تصفيتها لم تقتل عبثًا، بل في السياق الدقيق للمواجهة مع المشروع الإيراني لوضع اليد على لبنان منذ إطاحة نظام صدام حسين عام 2003، وهو مسلسل بدأ بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) 2004.

بعد أقل من شهر على استقالته من الحكومة اللبنانية رفضًا لتمديد ولاية رئيس الجمهورية إميل لحود، وما بدا واضحًا آنذاك أنه بداية فصل غير مسبوق من المواجهة اللبنانية مع نظام الأسد (وإيران).

ومضى مسلسل الترويع المغطى سياسيًا بالكامل من حزب الله بعد اغتيال الحريري، لفرض الاستسلام على اللبنانيين، فكان اغتيال الصحافي سمير قصير والقيادي اليساري جورج حاوي في 2005، بفارق ثلاثة أسابيع، بعد صدور القرار الأممي 1595 الذي قضى بتشكيل لجنة تحقيق دولية في اغتيال الحريري.

وفي 12 ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه وبفارق ساعات قليلة عن تقديم رئيس لجنة التحقيق الدولية القاضي الألماني ديتليف ميليس تقريره الثاني إلى مجلس الأمن، طال الاغتيال الصحافي جبران تويني. وكان سبق اغتيال تويني بأسابيع قليلة صدور القرار الأممي 1636 الذي وسع عمل لجنة التحقيق وأعطاها الحقوق والسلطات نفسها في سوريا تمامًا كما في لبنان!!

وبينما كان عام 2006 يشهد تصعيدًا في المواجهة السياسية حيال إقرار نظام المحكمة الخاصة بلبنان، بعد أن كلف مجلس الأمن الأمين العام للأمم المتحدة التفاوض مع الحكومة اللبنانية بشأنها، اغتيل الوزير بيار أمين الجميل في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) 2006، بعد أيام على رسالة الحكومة للمنظمة الدولية تتضمن الموافقة على مشروع المحكمة.

وكرت السبحة. اغتيل النائب وليد عيدو في 13 يونيو (حزيران) 2007، والنائب أنطوان غانم في 19 سبتمبر (أيلول) 2007، بعد أسابيع على صدور القرار الأممي 1757 القاضي بإنشاء المحكمة الخاصة بلبنان. كما بدا أن اغتيالهما، بعد اغتيال تويني والجميل، يندرج في مشروع تقليص الأكثرية في المجلس المنتخب عام 2005، على خلفية معركة الانتخابات الرئاسية.

ثم طاول الاغتيال ومحاولاته الشخصيات الأمنية المركزية في التحقيق في جريمة اغتيال الحريري، وأبرزهم الضابط وسام عيد الذي تدين له المحكمة بكشف شبكة الاتصالات التي استخدمت في مراقبة واغتيال الحريري.

وفي ذروة الصراع بين إيران والسعودية في سوريا سقط كل من الوزير محمد شطح واللواء وسام الحسن، بغية الإمعان في إنهاك الحالة الوطنية التي يشكلها الرئيس سعد الحريري وضرب مرتكزات فريقه السياسي والأمني!

سقط كل هؤلاء في سياق مشروع مواجهة محدد لا يختلف في عمقه عن مشروع المواجهة الدائر الآن! والمصارحة توجب القول إن من بين ما أضعف الحالة السياسية التي انتمى «الشهداء» إليها، ما يتجاوز الملاحظات على ضعف كفاءة هنا وموهبة هناك. ولعل أبرز الأسباب، إلى الاغتيال، يتصل بمبادرة الـ«سين سين» التي هندستها الرياض، وكان من نتائجها القاتلة زيارة الرئيس سعد الحريري إلى دمشق! لا يقال هذا الكلام من باب رفع المسؤولية أو التنصل، بل من باب الإقرار الضروري بالوقائع، المؤدي وحده إلى دقة في تشخيص الواقع السياسي ووضع استراتيجيات مواجهته.

أُضعف، لبنان، لبناننا ولبنان العرب، «بالتجريب فيه»، ويزداد ضعفه الآن بالإهمال والعزوف الغاضب عنه وتركه عمليًا فريسة كاملة للمشروع الإيراني!

لم يقصر لبنان في المواجهة! وهو اليوم في صلبها ولو كان ضعيفًا.

أختم بما ختمت به الأسبوع الماضي. الغضب مشروع، لكنه ليس بديلاً عن المشروع. عودوا إلى لبنان.

نديم قطيش

صحيفة الشرق الأوسط