شكل الاحتلال الأمريكي للعراق والإطاحة بحكم الرئيس العراقي صدام حسن في التاسع من نيسان/إبريل عام 2003م، ارتياحًا لدى عموم الشعب العراقي، إذ توقع العديد من الخبراء في العلاقات الدولية بأن هذا السقوط سيمثل مرحلة جديدة في التاريخ السياسي والاقتصادي العراقي المعاصر، فمن الناحية السياسية سيبنى النظام السياسي على أساس الديمقراطية النيابية، والتعددية، ومبدأ تداول السلطة، وبالتخلي عن العروبة كمرتكز فكري، والتحول نحو الوطنية المحلية التي تعطي الأولوية للعراق.
ومن الناحية الاقتصادية، سيؤسس ذلك السقوط لبداية عهد جديد من السياسات المدروسة الهادفة إلى إعادة بناء الاقتصاد المدني إذ سيتم رفع العقوبات الدولية التي فرضت على العراق على خلفية احتلاله لدولة الكويت في الثاني من آب/أغسطس عام 1990م، وانتهاج سياسات اقتصادية جديدة تستند على النظام الاقتصادي الليبرالي والتي تتمثل بأيديولوجية رأسمالية، وبالفردية والليبرالية ونظام السوق، حيث ستسود الملكية الخاصة والمشروع الخاص والانفتاح الاقتصادي على العالم، وحرية النشاط الخاص في الداخل، وحرية حركة السلع والخدمات ورأس المال تجاه الخارج، وحرية الاستثمار والتملك الأجنبي، والانخراط في عولمة نظام الإنتاج والتسويق، والالتزام بمبادئ مؤسسات العولمة الثلاث: صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة الدولية، والتقيد بكل اشتراطاتها، وتلبية جميع مطالبها ومتطلباتها. وسيكون هناك في النهاية نظام اقتصاد سوق حر، وتجارة خارجية حرة، وقطاع خاص فعال ومهيمن، وبهذا السياسة الاقتصادية الجديدة قد يستعيد الاقتصاد العراقي عهد الانتعاش الاقتصادي أو بعضًا منها الذي ساد في عهد سبعينيات القران المنقضي.
بعد ما يقارب 13 عاما على ذلك الاحتلال والإطاحة نتساءل ماذا تحقق من تلك التوقعات؟ يتمحور الجواب على هذا السؤال في قراءة المشهدين السياسيين والاقتصاديين العراقيين الراهنين؟، فالبنسبة للمشهد للأول يمكن قراءته على النحو الآتي: لم تعد هناك دولة عراقية بالمعنى الحقيقي بفعل أولًا الاحتلال الأمريكي الذي نجم عنه فراغ دستوري، وفلتان أمني، وعمليات سلب ونهب وتجاوز على ممتلكات الدولة والمواطنين على حد سواء، وعلى مشهد ومرأى من قوات الاحتلال وبرزت نزعات دينية وطائفية متطرفة ومتعصبة، أدت إلى نشوب حربًا طائفية بين سُنة وشيعة العراق في العام 2006م. وثانيًا بفعل النفوذ النظام الإيراني في كافة مفاصل الدولة، حيث شجّع هذا النفوذ على بروز المليشيات الشيعية الحليفة لها في المشهد السياسي العراقي، ليستخدمها ضد مناوئيه في الداخل العراقي، وضد مناوئيه من الدول العربية والإقليمية كاختطاف تلك المليشيات العمال الأتراك والصيادين القطريين. وبهذا النفوذ من الطبيعي أن يتخلى النظام السياسي العراقي بشقيه الحكومي وغير الحكومة عن العروبة والمضي في إطار السياسات الإيرانية في البيئة العربية، ولم يسمح ذلك بأن يتحول النظام السياسي العراقي نحو الوطنية الحقيقية كما حدث مع ألمانيا واليابان في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
فبعد انسحاب القوات الأمريكية من الأراضي العراقية في نهاية عام 2011م، واحكام النفوذ الإيراني سيطرته على النظام السياسي في العراق، اشتدت حدة العنف الطائفي بالبلاد استنادا إلى مجموعة من العوامل التاريخية، الجغرافية، الدينية والسياسية. أمام هذا الوضع المضطرب وجد تنظيم الدولة فضاءً خصبًا لبسط سيطرته على بعض المحافظات العراقية ذات الطابع السُني، معززًا من حدة حالة الفوضى والشتات في الجسم السياسي والاجتماعي العراقي، الأمر الذي خلّف مجازر في حق الآلاف ودفع الملايين إلى النزوح نحو المجهول هربًا من الوضع الكارثي في البلاد، كل ذلك جرى في ظل عجز تام أو قصد تام من قبل رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي على وقف التقدم السريع لتنظيم الدولة رغم الدعم الدولي والمساندة السياسية والمادية من طرف قوى استراتيجية مختلفة.
أما المشهد الاقتصادي العراقي الراهن يمكن تلخيص في الآتي: يعاني ذلك الاقتصاد من تشوهات واختلالات اقتصادية شاملة ومدمرة، تتمثل في الديون الداخلية والخارجية، وتعثر في السياسة النفطية بشكل كامل، وغياب الرقابة والتنظيم المركزين، وغياب الاستقرار السياسي والاقتصادي معا، وتفشي ظاهرة الفساد بأشكاله المتعددة في كل مفاصل الدولة العراقية بالإضافة إلى البطالة الواسعة، والفوضة الاقتصادية الشاملة، ودمار البنى الارتكازية من طرق وماء وكهرباء واتصالات، وتدهور المستشفيات وتدني حالة التعليم والصحة، وفقدان الأمن والارتفاع الجامح في الأسعار. ونتيجة لهذا فإن الاقتصاد العراقي على وشك الانهيار، إذ يوعز البعض هذا الانهيار إلى سببان هما: تدني أسعار النفط، ومحاربة تنظيم الدولة، ولكن هذا الإيعاز غير دقيق بالمطلق، لأن تدني أسعار النفط ليس مقتصر فقط على العراق وإنما على جميع الدول المنتجة والمصدرة للنفط أما حربها ضد “داعش”، فالعراق لا يخوض هذه الحرب بمفرده وإنما هناك تحالف دولي كي تكون هذه الحرب عبئاً اقتصاديا عليه بمفرده.
المفارقة العجيبة أن نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين خاض ثلاث حروب نتج عنها دمار شامل للاقتصاد العراقي، كما تعرض لحصار دولي بسبب احتلال دولة الكويت واستمر هذا الحصار حتى سقوطه ومع ذلك لم يتعرض الاقتصاد العراقي للانهيار، أما المفارقة الثانية، كيف وصل الاقتصاد العراقي بعد عام 2003 وإلى يومنا هذا، إلى هذا المستوى الكارثي في الوقت الذي يمتلك فيه كل مقومات الاقتصاد المزدهر من موارد اقتصادية وبشرية ومادية وطبيعية ورأسمالية وتقنية ومالية، يستطيع من خلال إعادة بناء اقتصاده على أسس مادية راسخة ومتينة تؤهله، في الأخير، لبدء عملية تنمية اقتصادية واجتماعية حثيثة ومستدامة تعيد العراق بدءًا من النقطة التي انتهى إليها في أواخر سبعينيات القرن المنقضي، ومع بدء ثمانينياته؛ أي قبل الحرب الإيرانية عام 1980م. ومن ثم تدفع به نحو تنمية حثيثة تؤدي به إلى مستويات معيشة فضلى، ومتسقة مع ما تتمتع به المجتمعات الموازية التي تتكافأ معه من حيث غنى الموارد، وتقدم المعرفة، وكيف لا يتحقق ذلك؟
ولدى العراق موارد نفطية واسعة، إذ قدر مركز دراسات الطاقة العالمية في لندن أن العراق يمتلك 112 مليار برميل من النفط باطن الأرض لم يتم استغلالها وتشكل 11 في المئة من احتياط النفط في العالم. وفي العراق ألفا بئر نفط تنتج حوالي 2.5 مليون برميل يوميا من الحقول الخمسة عشر الرئيسية في شمالي وجنوبي وشرقي العراق. وتقدر القدرة الحقيقية لهذه الآبار بأكثر من 3.8 مليون برميل يوميا. ويملك العراق احتياطيا مؤكدا من النفط قوامه 112-116 مليار برميل، وهو بذلك ثانية دول العالم بعد المملكة العربية السعودية في الاحتياطات. ويتوقع البعض أن يفوق الاحتياطي في العراق نظيره بإكمال البحث والتنقيب في مساحات لم تلق مسحا جيولوجيا كاملا. ويصنف النفط العراقي في المرتبة الأولى في العالم من حيث انخفاض تكلفة الإنتاج لوجود الخام على مقربة من السطح وعدم وجود عقبات جيولوجية، وأن شمالي غرب العراق لم يستكشف بعد، ويقدر الجيولوجيون بأن بحرًا من النفط الخفيف الممتاز يقع أعمق من حقل عين زالة، وخصوصاً عند صفية وصافان وتل حجر في بادية الجزيرة وغيرها.
ويمتلك العراق موارد مائية غزيرة –قياسًا بغالبية الدول العربية -وغني بثرواته المعدنية إذ يحتل العراق المرتبة الأولى في العالم من حيث الكبريت الحر، والثاني بعد المملكة المغربية من الفوسفات، فضلًا عن احتياطات هائلة من رمال السيليكا وأطيان السيراميك، كما أنه غني في مجال الثروة المعدنية الفلزية كالألمنيوم والنحاس والذهب والفضة والحديد والرصاص واليورانيوم، واللافلزية كالهيدروجين والنيتروجين والأوكسجين والفلور والكلور واليود.
ويمتلك العراق أيضًا أراضي زراعية واسعة، وقاعدة صناعية أولية، وبنى ارتكازية وعلمية وافرة، وعدداً سكانيًا ضخماً، ونسبة مرتفعة من التعليم الأولي، وموارد مالية كبيرة، وطاقة بشرية كافية لتلبية احتياجاته الصناعية والزراعية، ويتمتع العراق بموقع جيوستراتيجي مركزي على امتداد العصور المتباينة، وأن موقعه في قلب العالم القديم قد جعله معبرًا تهريا وبريا وبحريا بين القارات القديمة. كما شكلت مركزية موقعه بالنسبة للشرق الأوسط أهمية بالغة في حسابات المجال الحيوي لتلك المنطقة المهمة في العالم الحديث باعتباره وسط بحار العالم المركزية: المتوسط والأسود والخليج العربي وقزوين. وعليه، عُد العراق جسرًا موصلًا بين الشرق والغرب ماضيًا وحاضرًا، وبين الشمال والجنوب مستقبلًا، فهو من جانب أساسي رأس حقيقي لمنطقة الخليج العربي، وهو من جانب آخر القلب النابض للمصالح الاستراتيجية الحيوية القوية في الشرق الأوسط. ووصف من جانب ثالث بأنه البوابة الشرقية للأمة العربية مؤخرًا، فضلًا عن كونه مفتاح الاتصالات العربية بين تركيا وإيران معًا باعتبارهما قوتين مؤثرتين في البيئة الإقليمية، ناهيك عن كونه المركزية الدينية والعقائدية بوجود العتبات الشيعية المقدسة والحوزة العلمية للشيعة الاثنى عشرية. كما يمتلك العراق قدرات تنظيمية كفؤة ثبت وجودها في تسعينيات القرن الماضي في أعقاب حرب الخليج الثانية عام 1991م. فقد أثبتت عملية إعادة البناء بعد عام 1991:
*قدرات الفرد العراقي على الإبداع والإنجاز والتطور. فبأيد عراقية خالصة أعيد بناء ما خربته الحرب المذكورة في مختلف القطاعات الاقتصادية.
*أهمية الحوافز وجدواها في دفع العامل العراقي نحو البناء والعطاء بشكل لم يسبق له مثيل.
*أهمية القطاع الزراعي في رفد العراق بما يحتاجه ويكفيه من الغذاء دون اللجوء إلى الاستيرادات الخارجية.
*القدرة التنظيمية البارعة والكفؤة التي يتصف بها العراقيون عندما تتاح لهم الفرصة.
وعلى الرغم من كل هذه المقومات الاقتصادية وتجربة إعادة الإعمار العراقية إلا أن الحكومات العراقية ما بعد عام 2003م، عجزت في الوصول بالاقتصاد العراقي في عام 2016م، عن بلوغ ما حققه في عام 1980م بالنسبة لنصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي. بل أوصلته إلى مرحلة الانهيار. والسؤال الذي يطرح في هذا السياق لماذا وصل هذا الاقتصاد إلى هذا المستوى الكارثي مع توفر كل مقومات النهوض والنجاح له؟
لم يُقدر للعراق رجال دولة كما قدر لألمانيا رجل دولة بمستوى المستشار الألماني الأسبق “كونراد أديناور” واليابان بوزن رئيس وزرائها الأسبق “يوشيدا شيجرو” بعد الحرب العالمية الثانية، اللذين استطاعا أن يتجاوزا بدولتيهما نتائج تلك الحرب المدمرة على بلديهما. فالإثنين عملا على توظيف تناقضات مرحلة الحرب الباردة بما يخدم مصالح دولتيهما، فالأول انضم إلى محور الولايات المتحدة وانضم إلى الحلف الناتو وعمل على تسليح بلاده بموافقة المعسكر الغربي، وانضم لجماعة الحديد والفحم الأوروبية التي كانت التي كانت نواة الجماعة الاقتصادية الأوروبية ومن ثم الاتحاد الأوروبي، وها هي ألمانيا اليوم تعد الاقتصاد الأول على مستوى الاتحاد الأوروبي.
أما تجربة اليابان في النهوض في عهد “يوشيدا شيجرو”، فهي تعتبر بحد ذاتها درسًا لكل المهتمين بنهوض بلدانهم ، في الوقت الذي اجمع فيه علماء العلاقات الدولية أن اليابان لن تنهض مجددًا بعد تعرضها للدمار والاستسلام في الحرب العالمية الثانية، إلا أن “يوشيدا” رأى عكس ذلك تمامًا بقوله:” التاريخ يقدم أمثلة للفوز بالدبلوماسية بعد الخسارة في الحرب” واستشعر “يوشيدا” أن أمة مهزومة قد تستخدم النزاعات بين المنتصرين لمصلحتها في تسوية ما بعد الحرب. وفي الواقع، فقد جعل اندلاع الحرب الباردة مثل هذه الفرصة السانحة.
ولأن اليابان دولة فقيرة الموارد الطبيعية، اعتمد “يوشيدا” على سياسة “الواقعية التجارية” المبنية على النمو الاقتصادي المرتكز على الصناعات الهندسية الدقيقة بمعنى آخر أن تركز اليابان طاقاتها في الحصول على المواد الخام وتشكيلها إلى منتجات على درجة عالية من الجودة من أجل التصدير. فالتكنولوجية العلمية وروح القتال تحت حلة تجارية كانت من وجهة نظر “يوشيدا” جيش اليابان السري.
وعلى الجانب العسكري السياسي تجنب “يوشيدا” أي التزامات منها وتبنى المبادىء غير النووية الثلاث” عدم إنتاج أسلحة نووية، أو امتلاكها، أو السماح بدخولها” المبادىء الثلاث التي تحرم التسلح وتصدير التكنولوجيا العسكرية وتقييد الإنفاق العسكري في واحد بالمئة من إجمالي الناتج القومي. وبفضل هذه السياسة أصبحت قوة اليابان الاقتصادية والتكنولوجية في ثمانينيات القرن المنقضي توازي قوة الولايات المتحدة الأمريكية. كما تراكمت ثرواتها وفوائض حساباتخا التجارية الأمر الذي مكنها بأن تصبح أكبر دولة مُقرضة في العالم وأكبر دولة مانحة للمعونة. وفي هذا الإطار امتدح كل من “هنري كيسنجر” وزير الخارجية الأسبق للولايات المتحدة الأمريكية و”صمويل همنجتون” الأكاديمي العالمي المختص بالشؤون السياسية التجربية اليابانية ، فالأول قال :” القرارات اليابانية كانت القرارات الأكثر بُعدا للنظر وذكاء من أي أمة كبرى في حقبة ما بعد الحرب”. أما الثاني قال:” أن اليابان قبلت جميع فروض الواقعية لكنها طبقتها بشكل نقي في الحقل الاقتصادي”.
أما التجربة العراقية في مرحلة ما بعد عام 2003، تختلف تمامًا، عن التجربتين السابقتين فقد برز ضمن المشهد السياسي العراقي في مرحلة ما بعد 2003م قوى جديدة في إطار البحث عن تكتلات استراتيجية وإعادة تشكيل التحالفات السياسية، ما خلف تعددًا في الجهات التي تدعي الشرعية الدينية والسياسية لإعادة إعمار البلاد، بل أن معظم هذه القوى السياسية ذات توجهات دينية موحدة” إسلامية” ورهانات سياسية مختلفة” منهم من هو موال للتدخل الأجنبي، من يقاوم هذه الاحتلال، من يساند الحكومة الإنتقالية ومن يعارض تواجدها في الساحة السياسية” الأمر الذي أسهم سلبا في تحقق الانتقال الديمقراطي المنشود وعزز من حالة الإخفاق العراقي. وخاصة في عهد حكومة رئيس الوزراء العراقي السابق”2006م-2014م” الذي عمل على تبديد مئات المليارات من ثروات العراق، بدلًا من أن يعمل على تنمية بلاده في جميع المجالات، واستند على الطائفية والاقصاء والتهميش للمكُون السنيي كعنوانين بارزة لحكمه، والانتقام من خصومه السياسيين، فضلًا عن تسخير موارد الاقتصاد العراقي للنظام الإيراني لمواجهة العقوبات الدولية التي كانت مفروضة عليه، وحليفه بشار الأسد للتصدي لثورة الشعب السوري عليه، قبل أن يضطر مُجبرا على ترك منصبه بعد سيطرة تنظيم الدولة على مدينة الموصل في حزيران/يونيو عام 2014م. فالعراق بما يمتلكه من ثروات كان من شأنه أن يصبح قوة اقتصادية إقليمية لا يستهان بها على غرار الاقتصاد الماليزي والسنغافوري. فهو امتلك فقط رجال سياسة وليس رجال الدولة والنتيجة الانهيار الاقتصادي.
معمر فيصل خولي
مركز الروابط والبحوث والدراسات الاستراتيجية