إنّ تفاقم الأحداث في الشرق الأوسط الحافل أكثر من أي وقت مضى بتصعيدات صادمة ومزعزعة للاستقرار، وخاصة إذا ما تم أُخذ كل من هذه الأحداث بشكل منفرد، قد يُخبّئ النزعات الضمنيّة التي تدفع بالمنطقة إلى كارثة محتملة. وكلّما طال تجاهل الولايات المتحدة للشرق الأوسط، تسارعت وتيرة تولي اللاعبين الإقليميين لزمام الأمور بأنفسهم، ومواجهة بعضهم البعض في ظروف نزاعية، وتحولهم إلى أعداء لدودين. وهذا يجعل من شبه المستحيل على الولايات المتحدة بناء تحالفات عاملة مجدية وإيجاد شركاء من دون أن تُضطرّ إلى الانقضاض على بعضها البعض عندما يحين الوقت لانخراط واشنطن في الشرق الأوسط.
وفي الآونة الأخيرة، أصبحت هذه الاتجاهات الضمنية أكثر وضوحاً مع قيام السلطات السعودية بإعدام رجل الدين الشيعي نمر النمر، ثمّ مع الهجوم الذي أعقب ذلك على السفارة السعودية في طهران، وأخيراً مع قطع العلاقات بين المملكة العربية السعودية ودول خليجية أخرى من جهة وإيران من جهة أخرى. إنّ التأثيرات التفاعلية وسط هذه الأحداث الفردية تنتج سيناريوهات محتملة تتراوح ما بين وجود عسكري روسي كبير واحتدام إقليمي بين الشيعة والسنّة.
يجب النظر إلى إعدام النمر وانعكاساته في إطار تطوّرات أخرى مزعزعة للاستقرار. فمن وجهة نظر أكثر شموليّة، فإنّ أحداثاً مثل عملية الإعدام السعودية لرجل الدين الشيعي (إلى جانب إعدام عدد كبير من العرب السنّة لأسباب داخلية) وإسقاط المقاتلة الروسية في الآونة الأخيرة من قبل سلاح الجو التركي تأخذ معنى جديداً.
وعلى الأقل، أنّ النقطة الإيجابية الوحيدة هي أنّ الأفعال السعودية والتركية قد بلغت هدفها الفوري القاضي بكسر سلسلة متواصلة من النجاحات العسكرية والسياسية التي حقّقتها إيران وروسيا. وفي وقت سابق من هذا العام، أفادت صحيفة «نيويورك تايمز» أنّ جنرالاً عالي الرتبة من «فيلق الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني قد انتقد الهجوم على السفارة السعودية. وبالتالي، يبدوأنّ أفعال السعودية قد فاقت طهران دهاءً، فأوّلاً إنها قامت بإعدام النمر ثمّ استغلّت ردّة فعل إيران العنيفة المتوقّعة تجاه صفوف دولة خليجية قريبة. وقد حصلت حادثة مماثلة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد إسقاط مقاتلة “سوخوي-24”. فقد فاق غضبه اللفظي ضدّ تركيا كل الحدود، إلّا أنّ أفعاله كانت محدودة – حيث ألغى الجولات السياحية في حين سمح باستمرار تدفّق حوالى 60 في المائة من واردات الغاز الطبيعي التي تأتي من روسيا إلى تركيا وحافظ على عقود بناء منشآت نووية تركية.
وقد رأت أنقرة والرياض استفزازات محددة كان لا بد من الردّ عليها. وفي الحالة التركية، كانت تلك الاستفزازات التحليقات الروسية فوق الأراضي التركية التي بدأت فور وصول الطائرات الروسية إلى سوريا تقريباً. ولم تكن تلك التحليقات فوق أي أرض تركية، بل فوق محافظة هاتاي التي لطالما طالبت بها سوريا حليفة روسيا. (وكانت طائرة “سوخوي- 24” تحلّق هي أيضاً فوق هاتاي). وبالإضافة إلى ذلك، فخلال الانتهاكات الأوّلية للأجواء التركية، قامت المقاتلات الروسية بتعقّب الطائرات التركية بأنظمة السيطرة على النيران الخاصة بها. وفي غضون ذلك، بدأت روسيا بقصف قوّات المعارضة السورية التي تدعمها تركيا، فضلاً عن التركمان العرقيين الذين يشاركون الأتراك روابط متوارثة.
وقد رأت الرياض استفزازاً مماثلاً ومتعمّداً في موت قائد «جيش الإسلام» والشخصيّة السورية المعارضة التي تدعمها السعودية، زهران علّوش، وذلك خلال غارة جوّية قام بها السوريون أو الروس في أواخر كانون الأوّل/ديسمبر.
وهناك حافز ثالث محتمل للأفعال السعودية والتركية، الذي أثار على الأقل في حالة السعودية الكثير من التعليقات بين المحلّلين. فهناك اعتقاد متزايد في المنطقة بأنّه وبفعل عدم استعداد الولايات المتحدة للاستمرار في سياستها التي طالت لعقود طويلة والتي قضت بتأمين استقرار عالمي وإقليمي، على الجهّات المعنيّة التصرّف بالشكل الذي يصب في مصلحتها.
وكما لفتت كيم غطّاس في مجلّة «فورين بوليسي» مؤخّراً، قد يكون عدم تمكن الولايات المتحدة من الردّ بأي طريقة بارزة على التدخّل الروسي قد شكّل القشّة التي قصمت ظهر البعير. فقبل التدخّل الروسي، كانت واشنطن قد فشلت في الردّ على سلسلة من الاستفزازات الإيرانية في أواخر كانون الأوّل/ديسمبر، بدءاً من إطلاق الصواريخ الباليستية مروراً بحظر طفيف على التأشيرة الأمريكية ووصولاً إلى اصطدام وشيك بناقلة أمريكية في مضيق هرمز. (وبالتأكيد أنّ الردّ الأمريكي الضعيف على إيران لإذلالها بحّارة أمريكيين أُلقي القبض عليهم من دون أي مقاومة لن يعكس نظرتها الخافتة حول الالتزام الأمريكي الثابت).
ومع ذلك، ربما كانت دوافعهما أعمق من مجرّد «تلقين درس» وإظهار عزم. بل وكأن أنقرة والرياض تُشيران إلى الولايات المتحدة بأنه، نظراً لعدم تحرّك واشنطن، فإنّهما ستتصرّفان بنفسيهما. وبفعل متعمّد أو لا شعوري، قد تقضي غريزتهما هنا بتحذير واشنطن من أنّ القيادة من الخلف، وابتعاد محورها، و«وضعها حدّاً لحروب الولايات المتحدة» قد يجبر حلفاءها على اتخاذ إجراءات خطيرة. فقد يضع هذا الانسحاب حدّاً للهيكلية الأمنية، وللاستعداد للمحاربة بالمساندة المعنوية، وقد يؤدي تصعيد إقليمي إلى جر الولايات المتحدة إلى الصراع من جديد.
هناك فائدة لمختلف الهيكليات الأمنية الإقليمية التي ترعاها الولايات المتحدة وغالباً ما يتمّ التغاضي عنها وهي أنّه، منذ أوائل خمسينيّات القرن الماضي، أن هذه الهيكليات قد أجبرت رجالاً مستبدّين مثل سنغ مان ري – أول رئيس لكوريا – على الحكم بميولهم الشرسة كثمن للدعم الأمريكي المستمرّ. ومن خلال ذلك، فإن الإمكانات التصعيدية التي قد تنتجها مثل هذه الميول قد تكون محدودة. ومقابل ضمانات أمنية مباشرة من قبل واشنطن و«إدارة» أمريكية للتهديدات الأمنية، تمّ حلّ النزاعات بطرق لا تستوجب عادةً قيام القوّات الأمريكية بتطبيق هذه الضمانات [من خلال تدخّل عتيدها].
وهنا، تشكّل تركيا مثالاً مهمّاً بشكل خاص. فبقوّتها الاستثنائية ووجهة نظرها المختلفة نوعاً ما عن معظم حلفاء الولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي وشرق آسيا، لطالما وجدت تركيا نفسها في السابق مائلة إلى سلوك طريقها الخاصّ. ولكن، في النهاية، بحسن أو سوء نيّة وغالباً مكسورة الرأس، كانت تعود دائماً إلى الكنف الأمني لواشنطن. وفي هذا الإطار، ساعدت التوتّرات التركية الروسية الأخيرة في النهاية على توجيه أنقرة مجدّداً نحو كنف واشنطن – إذ تُعدّ روسيا خصم تركيا التاريخية؛ وعلى غرار جميع الأتراك الآخرين، يدرك الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أنّ أسلافه الأتراك العثمانيين قد خاضوا 17 حرباً خاسرة ضدّ موسكو.
وفي سوريا، اتّبعت تركيا سياسة تهدف إلى الإطاحة بنظام الأسد منذ عام 2012. ووفقاً لذلك، فإن انتشار القوّات الروسية في سوريا لتعزيز نظام الأسد في أواخر عام 2014 قد أغضب أنقرة. وبعد ذلك حاولت تركيا فرض منطقة حظر جوّي بحكم الواقع بالقرب من حدودها في سوريا، والتي قامت روسيا بانتهاكها، مما أجبر تركيا على إسقاط الطائرة الروسية.
ولم تتطوّر الحادثة إلى صراع كبير بين أنقرة وموسكو. إلّا أنّ تركيا شكّلت هدفاً لهجمات ألكترونية مكثّفة منذ حادثة الطائرة، مما يُعدّ إشارة منبّهة إلى أنّ الأدوات الحربية لبوتين غير متناسقة. إنّ المواجهة مع روسيا قد دفعت تركيا إلى الاقتراب أكثر من واشنطن، إلّا أنّ الوقائع لا تزال تظهر أنّ أنقرة مستاءة من عدم قيام الولايات المتحدة بما يكفي لإنهاء وحشيّة الأسد في سوريا. وبالتالي، ستعمل تركيا من وراء ظهر واشنطن لتأمين التغطية للثوّار المعارضين للأسد، وأحياناً لأولئك الذين هم من المتطرّفين.
أمّا المملكة العربية السعودية الأكثر حذاقةً، فقد عمدت مراراً وتكراراً إلى وضع حدود لتعاونها مع واشنطن، بدءاً من تسلّمها أسلحة من الصين وصولاً إلى تعاونها مع باكستان، وعلى الأقل ضمنيّاً شجّعت الدعوة الوهابية في كافة أنحاء العالم الإسلامي. ولكن، في النهاية، سواء خلال أزمة النفط أو في عام 1990، لطالما وجدت المملكة طريقتها الخاصّة في التعامل مع محسنيها الأمريكيين.
ومن دون إحداث تغيير جذري في رؤية إدارة أوباما للعالم، من الصعب تخيّل إدراكها لما خلّفته سياساتها – في بهجة يغذّيها نصر متواضع في قمّة المناخ، والتقارب الغريب من عائلة كاسترو، والاتفاق النووي مع إيران.
نحن اليوم أمام تفاقم الصراع السعودي – الإيراني. فقبل شهرَين، لم يكن هناك خلاف تركي – عراقي حول انتشار القوات العسكرية التركية، وقبل أربعة أشهر لم يكن هناك صراع تركي – روسي، واللائحة طويلة. فكلّما تجاهلت الولايات المتحدة الشرق الأوسط، كلما عمل اللاعبون الإقليميون بصورة أكثر على مسك زمام الأمور بأنفسهم، الأمر الذي يخلّف المزيد من الفوضى في المنطقة.
إذاً نعم، لقد أصبح أكثر صعوبة حالياً إنهاء الحرب في سوريا، ووضع حدّ لوحشيّة الأسد، وبالتالي إنهاء المحرّكات الرئيسية لعمليات التجنيد التي يقوم بها تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»). إن المزيد من التأخير في انخراط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط قد يعود على أمريكا بسياسة خارجية موازية لمشكلة مستعصية.
يعتمد أي نظام أمني على الثقة بـ «نظام» شامل وقائد عام من قبل دول التحالف القادرة على إحداث أزمة بنفسها. ويبدو أنّ تركيا والمملكة العربية السعودية، إلى جانب لاعبين إقليميين آخرين مثل إسرائيل يشكّكون في مصداقية هذا النظام وقائده. إنّ النتائج، كما ظهرت بإسقاط المقاتلة الروسية من طراز “سوخوي- 24” ومن خلال الخلاف الدبلوماسي بين إيران والمملكة العربية السعودية، قد بدأت تشبه حالة البلقان: إمّا البلقان في أوائل تسعينيات القرن الماضي قبل أن تستيقظ الولايات المتحدة من سُباتها وتضطلع بدورها كقائد أمني، أو البلقان في العقد الذي سبق الحرب العالمية الأولى عندما لم يستيقظ أحد من سُباته.
جيمس جيفري وسونر جاغايتاي
معهد واشنطن