كشفت الثورات العربية، وما أسفرت عنه من حالة عدم استقرار أمني، واتساع نطاق المناطق أو الأقاليم الخارجة عن سيطرة الحكومات المركزية، سواء بشكل جزئي في المناطق الطرفية والحدودية في دول مثل اليمن وليبيا، أو بشكل كلي في دول مثل سوريا والعراق والصومال، عن ظهور أنماط جديدة مما يُمكن تسميته بالأنظمة القضائية الحاكمة لتلك المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة، من أبرزها النظام القبلي العرفي، والنظام الديني الشرعي، وبعض الأنظمة العرفية في بعض المناطق الكردية؛ حيث يفرض هذا التعدد بعض التداعيات السلبية، ومنها تعددية النظم القانونية داخل الدولة ذاتها، وتكوين مراكز قوى جديدة في الدولة، علاوةً على كونها مقدمة لتخلي الدولة عن وظائفها.
أنماط مختلفة:
تتعدد الأنظمة القضائية غير الرسمية في الدول العربية، خاصة المناطق الطرفية فيها، بين التي يتم فيها الاستناد في كثير من الأحوال إلى القواعد العرفية التي نشأت في تلك المجتمعات، وبين التفسيرات المختلفة للنصوص الدينية، لا سيما في المناطق التي تُسيطر عليها التنظيمات السلفية والراديكالية. وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى أبرز تلك الأنماط، والتي يتقدمها القضاء العرفي القبلي، والذي ينتشر بشكل ملفت للانتباه في المناطق الطرفية في دول مثل مصر واليمن.
ويعتمد هذا النمط على الأعراف الثابتة لدى المجتمعات البدوية، حيث يُخصص لكل نوعٍ من القضايا شخص معين يُطلق عليه اسم مختلف طبقًا لنوع القضية، فعلى سبيل المثال يطلق على القاضي الذي ينظر الخلافات بين شخصين أو قبيلتين اسم “رجل الصلح”، أما الشخص الذي ينظر في قضايا العِرض والشرف فيطلق عليه “المنشد”، فيما يسمى الشخص الذي ينظر في القضايا التي لا يوجد شهود فيها بــ”المُبَشّع”، وذلك بالإضافة إلى أهل الخبرة من القبائل في القطاعات المختلفة الذين يتم اللجوء إليهم في الخلافات حول أراضٍ زراعية أو غير ذلك.
ووفقًا لهذا النمط، فإنه مع نشوء خصومةٍ بين طرفين، يتم الاتفاق على تسمية ثلاثة قضاة، ثم يقوم كل طرف بعد ذلك بحذف قاضٍ حتى يتبقى قاضٍ واحد فقط، هو الذي يقوم بالفصل في النزاع.
وينتشر أيضًا نظام العرف القبلي بشكل واسع النطاق في اليمن، حيث يتم اللجوء لمشايخ القبائل لحل الإشكاليات التي تنشب، لا سيما في قضايا القتل والشجار والنزاعات التجارية وحدود ملكية الأراضي؛ إذ يتم الاعتماد على الأعراف والقوانين غير المكتوبة لحل تلك النزاعات، والتي غالبًا ما يقتنع بها أطراف النزاع.
ويتم إلزام أطراف النزاع بتنفيذ الحكم العرفي الصادر من مشايخ القبائل، عبر أحد طريقين: الأول، التراضي، حيث لا تُوجد أي ضمانات ملزمة للتنفيذ. والثاني، “العدل”، إذ يقوم كل طرف بتقديم ضمانات مادية، وذلك كوسيلة للضغط، حيث يحصل عليها الطرف الآخر في حال تراجع الطرف المقابل عن تطبيق الحكم العرفي.
كما ظهر أيضًا بالتزامن مع سيطرة التنظيمات الراديكالية المسلحة على مناطق واسعة، خاصة في سوريا والعراق والصومال، نمط القضاء الشرعي الديني، والذي تقوم بتطبيقه تنظيمات مثل “جبهة النصرة” و”داعش” في المناطق التي تسيطر عليها، وجماعة “شباب المجاهدين” في الصومال، حيث يستند ذلك بشكل أساسي إلى فهم وتفسيرات تلك التنظيمات الإرهابية المسلحة للشريعة الإسلامية.
فعلى سبيل المثال، قام تنظيم “داعش” بتشكيل عدد كبير من المحاكم بشكل رسمي في كلٍّ من سوريا والعراق وليبيا، حيث ينقسم النظام القضائي لتنظيم “داعش” إلى ثلاثة أفرع رئيسية، هى: قسم الشكاوى أو المظالم، والذي يختصُّ ببحث الشكاوى بين المواطنين وبعضهم بعضًا، وبين المواطنين العاديين وعناصر تنظيم “داعش” أنفسهم، و”المحاكم الإسلامية” وفي مقدمتها المحكمة الإسلامية العليا بالموصل، والتي تختص بالنظر في انتهاكات قوانين ما يسمى بـ”دولة الخلافة” وشئونها الحكومية، و”ديوان الحسبة” الذي يفصل في الجرائم ذات الطبيعة الأخلاقية.
هذا، بالإضافة إلى المحاكم التي قامت “جبهة النصرة” بتأسيسها في المناطق التي تسيطر عليها في سوريا، ويطلق عليها “دور العدل”، وتتركز بالأساس في أرياف كلٍّ من إدلب وحمص واللاذقية. وتعتمد تلك المحاكم في أحكامها على الشريعة الإسلامية وفقًا لمفهوم “جبهة النصرة” لها. غير أن دور العدل تتسم بقدرتها العالية على تنفيذ أحكامها لما لها من قوة من خلال عناصر شرطية تسمى “الشرطة الإسلامية” في بعض المناطق، بينما تُسمى “الحسبة” في مناطق أخرى.
وعلى عكس ما هو مشاع من أن النظم القضائية تنشأ لحماية الكافة دون النظر إلى العرق أو الطائفة، فقد دفعت الحروب والصراعات المسلحة بعض الأقليات العرقية إلى تأسيس نظم قضائية عرقية خاصة بها، وهو ما يتجلى بوضوح في حالة المناطق التي تسكنها الأقلية الكردية في سوريا، ويطلق عليها “محاكم الإدارة الذاتية الكردية” أو “محاكم الشعب”، ويبلغ عددها 19 محكمة، وتتركز في مناطق الوجود الكردي خاصة الحسكة وريف حلب وريف الرقة الشمالي، ولها جهاز تنفيذي شرطي يُسمى “قوات الأسايش”. وتعتمد تلك المحاكم في أحكامها على العرف السائد في المجتمعات المحلية، فضلا عن مجموعة القوانين التي أقرتها الإدارة الذاتية منذ تأسيسها في عام 2013، علاوةً على اعتمادها، في حالات نادرة، على القوانين السورية الرسمية. كما أنها تعتمد في سير عملها على نظام القضاة والمحلفين وبعض الحقوقيين. وتتضمن أيضًا أربع محاكم استئناف، ومحكمة نقض تقع في القامشلي.
سمتان رئيسيتان:
تتسم الأنظمة القضائية غير الرسمية بخاصيتين تجعلان القواعد الشعبية في بعض الدول أكثر انجذابًا لها من النظام القضائي الرسمي: الأولى، سرعة إجراءات التقاضي التي يمكن أن تستغرق فترة قصيرة منذ بداية المحاكمة وحتى تنفيذ الحكم، وهى بذلك تتميز عن إجراءات التقاضي في الأنظمة الرسمية التي قد تأخذ سنوات طويلة إلى حين صدور الحكم، وذلك كنتيجة لاكتظاظ المحاكم بأعداد ضخمة من القضايا المنظورة أمامها، فضلا عن استمرار إجراءات القضاء العرفي طول العام دون إجازات.
والثانية، ضمان القدرة على تنفيذ الأحكام لا سيما وأنها تعتمد على الطبيعة الرضائية، خاصة في القضاء العرفي القبلي، كما أنها تتم، في أغلب الأحوال، عن طريق شيوخ القبائل، مما يعطيها مصداقية أكبر، ويضمن تنفيذ أحكامها، لما لمشايخ القبائل من مكانة داخل مجتمعاتهم، فضلا عن كون أحكامها تتناسب مع طبيعة المجتمعات التي تعتمد عليها، لا سيما في القضاء العرفي في المناطق الطرفية التي تسكنها القبائل والعشائر.
تداعيات خطيرة:
لكن رغم ذلك، فإن انتشار تلك النظم فرض حزمةً من التداعيات السلبية، التي تتمثل في:
1. تعددية النظم القانونية داخل الدولة ذاتها: يؤدي وجود أكثر من نظام قضائي داخل حدود الدولة ذاتها إلى حدوث خلل في نظام ومفهوم العدالة بداخلها، كما أنه يمثل تحديًا رئيسيًّا لسيادة القانون الذي يمثل القاعدة الرئيسية التي تنطلق منها الدول. ولعل سوريا تمثل الحالة الأهم التي تبرز فيها نماذج عديدة من المحاكم، سواء التابعة للنظام الرسمي، أو المحاكم التابعة لبعض قوى المعارضة والتنظيمات الإرهابية، وهو ما يمكن أن يفرض عقبات جديدة بعد انتهاء الصراع تتمثل في كيفية توحيد النظام القضائي والقانوني.
2. تكوين مراكز قوى جديدة داخل الدولة: يساهم انتشار القضاة خارج حدود منظومة الدولة الوطنية، سواء أكانوا من القبائل أو غير ذلك، في إعادة إنتاج مراكز قوى قضائية قادرة على التأثير، لما لمنصب القاضي من مكانة لدى الشعوب العربية، وهو ما يمكن أن يهدد سلطات الدولة الرسمية، لا سيما في ظل محاولات بعض القوى الاجتماعية تكرار مثل هذه النماذج.
3. مقدمة لتخلي الدولة عن وظائفها: إذ أن بعض الحكومات أصبحت تلجأ للقضاء العرفي أو غير الرسمي لحل عدد من الإشكاليات التي لم تنجح في تسويتها، وهو ما يتجلى بوضوح في حالات اتساع نطاق الخلافات بين القبائل في اليمن.
والخلاصة، يبدو أن ظاهرة تعدد وانتشار النظم القضائية غير الرسمية في عدد من الدول العربية في تزايد مستمر، لا سيما مع وجود المسببات الموضوعية لها، كانتشار التنظيمات الإرهابية، وخروج العديد من المساحات عن سيطرة الحكومات المركزية، بخلاف غياب الدور الوظيفي للدولة في بعض المناطق الطرفية والحدودية، إلى جانب بطء إجراءات التقاضي نتيجة كثرة عدد القضايا المتداولة في المحاكم في بعض الدول المستقرة نسبيًّا.
المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية