استقال وزير الخارجية الفرنسية لوران فابيوس، وأعطى انطباعاً بعد استقالته أنّ سببها المباشر يعود إلى تكأكؤ السياسة الأميركية تجاه الأزمة السورية وغموضها، مما أدّى إلى خراب سوريا تحت وطأة التدخلات الخارجية الروسية والإيرانية، واستسلام الولايات المتحدة لها بسبب التناقض المستمر بين الأقوال والأفعال.
كلام فابيوس صحيح فيما يتعلق بموقف واشنطن من الأزمة السورية. ويضاف إليه عجز الأوروبيين وبخاصة فرنسا وبريطانيا في التأثير على واشنطن لتغيير سياساتها، لكنْ هناك ملف مهم آخر كانت فرنسا قد اتخذت موقفاً فيه قبل أسابيع، وهو موقف عارضته فوراً واشنطن وتل أبيب، فقد هددت فرنسا بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، ودعت لمؤتمر دولي من أجل القضية الفلسطينية، وكان موقف كيري ونتنياهو واحداً من المبادرة الفرنسية رغم اختلاف الألفاظ، فقد قال كيري إنّ القضية الفلسطينية لا تنحلُّ إلاّ بالتفاوض المباشر، والمؤتمر الدولي لا يفيد في شيء، ما دامت إسرائيل لا تقبل حضوره. أما نتنياهو فقد اعتبر أنّ الأمرين، أي المؤتمر الدولي والاعتراف بالدولة الفلسطينية، إنما يشجّعان الفلسطينيين على رفض التفاوض المباشر، فهما لا يخدمان في الحقيقة قضية السلام!
لدينا إذن مسألتان، كان للسياسة الخارجية الفرنسية موقف واضح فيهما، وما نجح الرئيس الفرنسي ووزير خارجيته في إقناع واشنطن بهما، وبالطبع فإنّ فرنسا لا تستطيع الإصرار في هذه الظروف على تحدي واشنطن، وبخاصةٍ أنّ فابيوس لا يتهم واشنطن في فلسطين وسوريا وحسْب، بل ويذهب إلى أنّ واشنطن ليست جادّة في مكافحة الإرهاب «الداعشي» في سوريا، إذ لم تسمح في سوريا إلاّ لأكراد «حزب العمال» في مقاتلة «داعش» على الأرض، وهؤلاء مثل روسيا وإيران أخيراً لا يقاتلون داعشاً، بل يقاتلون المعارضة السورية المسلَّحة في شمال سوريا!
لقد حظيت سياسات فرنسا الخارجية تجاه أزمات الشرق الأوسط باستحسان العرب، وازدادت علاقاتها بالسعودية والإمارات وثوقاً وسط تشاورٍ مستمر، بيد أنّ التمايُز عن الولايات المتحدة احتاج دائماً – منذ عهد الجنرال ديجول- إلى دعم أطراف دولية أخرى في طليعتها موسكو وبرلين، وقد جرّبت فرنسا حظَّها التمايُزي مع موسكو بوتين في السنوات الأخيرة في مناسبتين: التفاوض حول أوكرانيا، والتفاوض حول سوريا. أما في أوكرانيا فإنّ موسكو فضّلت عليها ألمانيا.. واستطراداً الولايات المتحدة، وأمّا في سوريا فإنّ روسيا بوتين رأت التعاوُنَ مع الولايات المتحدة منذ البداية، وهذا أمر مفهوم، لأنّ واشنطن هي الأقوى والأفعل في منطقة الشرق الأوسط والعالم، ولأنّ وجهة نظر واشنطن أقرب لوجهة نظر موسكو في الأزمة السورية، وعندما وقع الحادث الإرهابي الأخير على فرنسا في نوفمبر، بلغ من سُخط فرنسا على سياسات واشنطن المتهاودة ضد الإرهاب أنْ مضت باتجاه موسكو وسط استعدادات روسية كانت قد صارت منظورة للتدخل العسكري في سوريا، وطبعاً ضد الإرهاب! لكنّ الفرنسيين شعروا من التفاوض والمراقبة، أنّ بوتين أيضاً ليس مهتماً بمكافحة «داعش»، بقدر اهتمامه بدعم النظام السوري، ولذلك فما كانت نتيجة الاستنفار الفرنسي ضد «داعش» غير زيادة عدد الغارات الفرنسية عليه في سوريا، ولا شيء أكثر.
لوران فابيوس سياسي اشتراكي فرنسي عريق، وهو يهودي الأصل، لكنه ليس صهيونياً مثل اشتراكيين آخرين، وما كان اليمين الإسرائيلي يحبه ولا يرتضي سياساته حتى في سوريا. وذلك رغم سياسات فرنسا المتشددة في عهده إزاء الملف النووي الإيراني، وهو الأمر الذي دعا الإيرانيين إلى الغمز من أصله اليهودي! إنما من ناحية أخرى فإن السياسة الخارجية لا يحددها وزير الخارجية، بل رئيس الجمهورية، كما هو معروف في التقاليد الفرنسية، ولذا فإنّ معارضات وتوافقات فابيوس إنما كانت تتم بالتوافق مع الرئيس، وبذلك فإن الفشل في أي مبادرة فرنسية في السياسة الخارجية، وإن نُسبت إلى وزير الخارجية، لكنّ الرئيس هو المسؤول في النهاية.
فرنسا من الدول الوسطى في القوة العسكرية الاستراتيجية، وقد تدخلت وما تزال في أفريقيا، ولا تستطيع أن تفعل أكثر مما فعلت في الشرق الأوسط من دون واشنطن، ثم إنها دولة رئيسية في الاتحاد الأوروبي لكنّ ألمانيا تقدمت عليها منذ مدة، وهكذا ومن ضمن إعادة تقدير فرنسية للدور والقدرة، ارتأى الاشتراكيون وسط أزمة الاتحاد الأوروبي، واقتراب الانتخابات الرئاسية، وعدم القدرة على المضي في مبادراتهم في فلسطين وسوريا، إظهار تغييرٍ من نوعٍ ما على رأْس الدبلوماسية، دونما اعترافٍ بالفشل أو التراجع، بدليل تعيين فابيوس رئيساً للمجلس الدستوري وهو منصب سام، وكان الله يحب المحسنين!
رضوان السيد
صحيفة الاتحاد الإماراتية