ماذا يجري فعلا بخصوص أسعار النفط، يلخّص هذا التساؤل، الذي يطرحه مستشار المخاطر الاستراتيجية الأميركي وليام أنجدال، حيرة كبرى في أوساط الكثير من المتابعين للواقع النفطي الراهن، في ظلّ الاختلالات غير المفهومة في معادلة العرض والطلب، والتي باتت بدورها غير قادرة على إيجاد تفسير وإجابة على سؤال أنجدال.
يقول أنجدال، في تحليل له سعى فيه للإجابة على تساؤله، “إذا كان هناك سعر وحيد لأيّ سلعة أساسية يحدد زيادة نمو اقتصادنا أو تباطئه فهو سعر النفط الخام. وباعتبار خبرتي في تتبع الجغرافيا السياسية للنفط وأسواقه أشتمّ رائحة خدعة كبيرة”.
ويؤّيد كثير من المراقبين موقف المحلل السياسي الأميركي في اعتباره أن هناك الكثير من الوقائع والأشياء التي لا تستقيم فيما يتعلّق بالأساس في عملية الرفع في الإنتاج مقابل خفض السعر. ويضيف المراقبون أن ارتفاع أسعار النفط، أمس الأربعاء، لم يحمل تفاؤلا بل زاد من تعقيد الوضع وضاعف من الحيرة؛ فالمتوقّع أن رفع العقوبات عن إيران سيجلب المزيد من النفط إلى سوق يعاني من فائض إنتاج مما يزيد في الضغط على الأسعار في اتجاه النزول.
لكن أنجدال يرى أن هذا لا يستقيم، حيث ينقل عن سيد محسن غمسري، رئيس الشؤون الدولية في شركة النفط الوطنية الإيرانية قوله إن بلاده “ستحاول دخول السوق بطريقة تتأكد فيها من أن الإنتاج الإضافي لن يتسبب في مزيد خفض الأسعار وسننتج الكمية التي يمكن للسوق امتصاصها”، وبالتالي فوفق المحلّل الأميركي فإن دخول إيران ما بعد العقوبات إلى أسواق النفط العالمية لا يمكن اعتباره سببا في الهبوط الحاد لأسعار النفط، على الأقل في الانخفاض الذي حصل منذ الأول من يناير، أي قبل إقرار رفع العقوبات في 17 يناير.
وكذلك ليس صحيحا، وفق المحلل الأميركي، أن طلب الصين على الواردات النفطية انهار بالتوازي مع الانهيار المفترض للاقتصاد الصيني. ففي السنة الماضية وإلى حدود نوفمبر 2015 استوردت الصين كمية أكبر من النفط ليصل إجمالي الواردات 6.6 مليون برميل في اليوم وتصبح بذلك أكبر مستورد للنفط في العالم.
ارتفاع لا يحمل تغييرا
العنصر المنذر بالشؤم في هذا الوضع، المشؤوم أصلا، والمتمحور حول مركز الاحتياطي العالمي من النفط والغاز الطبيعي، أي الشرق الأوسط، هو أن أسعار النفط التي استقرت مؤقتا في سعر منخفض بأربعين دولارا في شهر ديسمبر هبطت الآن بنسبة 25 بالمئة لتصل إلى 29 دولارا، ثم عاودت الصعود لكنها لم تتجاوز الـ35 دولارا، وهو السعر المسجّل الأربعاء (16-2-2016).
لكن، هذا الارتفاع المتحدّث عنه، بالتزامن مع انتقال الجهود التي تقودها روسيا والسعودية للوساطة في اتفاق على تجميد مستويات الإنتاج وتخفيف التخمة العالمية إلى إيران، التي أبدت علامات على تبنيها موقفا متشددا، لن يغيّر الكثير في المستقبل الذي يبدو أكثر قتامة، حسب وليام أنجدال، إذ توقعت سيتي غروب إمكانية وصول الأسعار إلى عشرين دولارا، أما شركة غولدمان ساكس فتذهب إلى أبعد من ذلك بقولها إنها قد تأخذ ما دون العشرين دولارا للبرميل لإعادة الاستقرار للأسواق النفطية العالمية والتخلص من الفائض في العرض.
ويعلّق أنجدال على هذه التوقّعات قائلا “الآن لديّ شعور كبير بوجود شيء كبير جدا وخطير جدا يطبخ في أسواق النفط العالمية في الأشهر القليلة القادمة، شيء لا يتوقعه معظم العالم”. وكانت آخر مرة قامت فيها غولدمان ساكس (مؤسسة خدمات مالية واستثمارية أميركية متعددة الجنسيات) والمقربين منها في وال ستريت بتوقع خطير في أسعار النفط هي في صيف 2008.
في ذلك الوقت ووسط تصاعد الضغوط على بنوك وال ستريت لانتشار انهيار القطاع العقاري الرهني قبيل انهيار شركة لهمان براذرز في شهر سبتمبر من تلك السنة، كتبت غولدمان ساكس بأن النفط متجه نحو 200 دولار، وكان قد وصل فقط إلى 147 دولارا.
ويضيف أنجدال “في تلك الفترة كتبت تحليلا أقول فيه إن العكس بالضبط هو المتوقع، وذلك اعتمادا على وجود فائض ضخم في أسواق النفط العالمية، وهي حقيقة من اللافت للنظر أنه لم تحددها إلا شركة لهمان براذرز. أخبرني وقتها مصدر صيني مطلع أن بنوك وال ستريت مثل جي. بي مورغان شيس كانوا يضخمون سعر 200 دولار لإقناع شركة الصين الجوية وغيرها من الشركات الحكومية الصينية المستهلكة للنفط لشراء كل ما تقدر على شرائه من النفط بسعر 147 دولارا قبل أن يصل الى 200 دولار، وهي نصيحة غذت تصاعد الأسعار”.
بعد ذلك، في شهر ديسمبر 2008، هبط سعر نفط برنت القياسي إلى 47 دولارا للبرميل. ونتيجة لأزمة لهمان، غرق العالم في أزمة مالية وركود عميق في الوقت ذاته. ويعتبر أنجدال أن هذه الأزمة هي قرار سياسي متعمد اتخذه وزير المالية الأميركي هنري بولسن، الذي كان رئيس مجلس إدارة غولدمان ساكس في سبتمبر 2008.
ويضيف متسائلا “هل كان المقربون من بولسن في شركة غولدمان ساكس وغيرها من كبرى البنوك في وال ستريت مثل سيتي غروب أو جي. بي مورغان شيس يعرفون مسبقا بأن الوزير كان يخطط لأزمة لهمان لإجبار الكونغرس لمنحه تفويضا مطلقا للإنقاذ عن طريق تمويلات تقدر بـ700 مليار دولار؟”.
منافسة الغاز الصخري
تعتبر صناعة النفط الصخري الأميركي التي أكبر مصدر لزيادة الإنتاج الأميركي من النفط منذ سنة 2009 أو بعدها بقليل توجد الآن على شفا جرف شاهق من الإفلاسات الضخمة. وقد شرع اتحاد الشركات النفطية الكبرى (إكسون موبيل، شافرون، بريتش بتروليوم، شال) في بيع استثمارات هذه الشركات في الغاز الصخري منذ سنتين. واليوم، يهيمن على صناعة الغاز الصخري في الولايات المتحدة ما تسميهم بريتش بتروليوم وإكسون موبيل بـ”الكاوبويات”، وهم شركات جريئة متوسطة الحجم، وليست كبرى الشركات.
ولهذا لن تذرف بنوك وال ستريت (مثل جي.بي مورغان أو سيتي غروب الممولة التقليدية للشركات النفطية الكبرى) أو الشركات النفطية الكبرى نفسها الدموع عند هذه النقطة التي يتراجع فيها ازدهار النفط الصخري، وهو ما يسمح لهم مرة أخرى بالسيطرة على أكبر سوق في العالم. وتخوض الدول المنتجة للنفط، وعلى رأسها السعودية، منذ صيف 2014 معركة من أجل إزاحة الوحدات الأكثر تكلفة في سوق النفط، وأولها النفط الصخري الأميركي. لكن تبين أن تراجع قيمة النفط الصخري وحدها لن تعيد النفط إلى المستويات المتراوحة بين 70 و90 دولارا، التي يجدها الفاعلون الكبار في صناعة النفط مريحة، إذ يتوجب تخفيض فائض الإنتاج القادم من الشرق الأوسط وبالتحديد من السعودية وحلفائها من دول الخليج العربي.
بيد أنه في الوقت الراهن لا تظهر مؤشّرات على فعل ذلك، وفق أنجدال الذي يختم قراءته في أزمة أسعار النفط الراهنة قائلا “كل شيء يخبرني بأن العالم مقبل على أزمة نفطية كبرى أخرى. ويبدو أن الأمر دائما تقريبا يتعلق بالنفط، ومثلما قال هنري كيسنجر سابقا خلال أزمة نفطية أخرى في منتصف السبعينات عندما واجهت أوروبا والولايات المتحدة حظرا نفطيا من منظمة الأوبك نتجت عنه طوابير عند مضخات النفط: إذا سيطرت على النفط فأنت تسيطر على بلدان بأكملها”.
ولا تختلف قراءة مركز ستراتفور للأبحاث الأمنية والاستراتيجية عن التوقّعات السابقة، حيث يشير المركز بدوره إلى أن حجم ارتفاع إنتاج النفط في أميركا الشمالية واستمرار احتمالية نموه يجعل من المستحيل على كل من الرياض وموسكو وأوستن وتكساس، أن تقوم بمراقبة وموازنة سوق النفط العالمية مثلما اعتادت من قبل. والنتيجة هي طغيان جو من عدم اليقين والريبة عند محاولة التطلع إلى مستقبل سوق النفط العالمية.
وإلى أن يعود جو اليقين أو أن تكتمل كتابة قصة الأزمة النفطية الراهنة، لن يبقى أمام السعودية والآخرين من خيار سوى حماية حصتهم في السوق وترك الجميع يتعامل مع العواقب.
صحيفة العرب اللندنية