عبر بساتين الزيتون وحقول القمح في محافظة حلب السورية الشمالية، تهدد معركة ذات أبعاد عالمية بمخاطر التحول إلى حرب أوسع نطاقاً.
الطائرات الحربية الروسية تقصف من السماء. والميليشيات العراقية واللبنانية تتقدم –بمساعدة مستشارين إيرانيين- على الأرض. وتقاتل مجموعة متنوعة من الثوار السوريين المدعومين من الولايات المتحدة وتركيا والسعودية وقطر من أجل وقف تقدم تلك الميليشيات. وتحاول القوات الكردية المتحالفة مع كل من واشنطن وموسكو الاستفادة من هذه الفوضى لتوسيع نطاق المناطق الكردية. و”الدولة الإسلامية” تختطف بضعة قرى صغيرة، بينما كان كل التركيز منصباً على المجموعات الأخرى.
قبيل التوقف الوشيك المفترض في الأعمال العدائية، والذي تفاوضت عليه القوى العالمية، يبدو أن الصراع في سورية يتصاعد فحسب. وقد انضمت تركيا إلى المعمعة خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي، فأطلقت نيران مدفعيتها عبر الحدود في اتجاه المواقع الكردية لليوم الثاني على التوالي يوم الأحد، بحيث دفعت إدارة أوباما إلى حث كل من الأتراك والأكراد على التراجع.
تحولت الحرب الأهلية في سورية منذ فترة طويلة إلى حرب بالوكالة، حيث تقوم القوى العالمية المتنافسة بدعم الفصائل السورية المتصارعة منذ الأيام الأولى تقريباً للثورة المسلحة ضد الرئيس بشار الأسد.
لكن المخاطر –أو التعقيدات والتشابكات- فيما يرقى إلى أن يكون حرباً عالمية مصغرة، ربما لم تكن ظاهرة على أبداً في السابق كما تظهر الآن في المعركة الجارية من أجل السيطرة على حلب.
وقد حذر رئيس الوزراء الروسي، ديمتري ميدفيديف، من هذه المخاطر يوم السبت خلال المؤتمر الأمني الذي انعقد في ميونيخ، فقال إن العالم قد انحدر بالفعل إلى “حرب باردة جديدة”. وقال سلمان الشيخ، المستشار السياسي الذي تشارك مؤسسته “مجموعة الشيخ” في جهود الوساطة لإنهاء الحرب السورية: “هناك دوامة من انعدام الأمن، والتي لا تتم إدارتها. إن ما نراه الآن هو صراع موازين قوى كلاسيكي ومعقد حقاً، والذي يمكن أن يتحول إلى وضع بالغ الخطورة”.
في الوقت الراهن، يتركز القتال في المناطق الريفية النائية من حلب، وهي مشهد من الأراضي الزراعية المتعاقبة المبقعة بالقرى والبلدات التي تسحقها بانتظام عمليات القصف الروسية التي لا هوادة فيها. ويقول السكان هناك إن كثافة الضربات قد ازدادت فقط منذ الإعلان الأخير عن اتفاق وقف إطلاق النار، ربما في إطار سعي روسيا وحلفائها إلى تعظيم مكاسبهم قبل التنفيذ المحتمل للاتفاق.
سوف تؤدي هزيمة الثوار هناك إلى تمكين الحكومة من تطويقهم، ثم سحقهم أخيراً في معقلقهم في الجزء الشرقي من مدينة حلب، وهو ما قد يوجه ضربة حاسمة إلى الثورة المستمرة منذ خمس سنوات ضد حكم الأسد.
لكن ما هو على المحك أكثر من ذلك هو نتائج الحرب في سورية كلها. فالآن، يعزز الهجوم الجاري على حلب مكانة موسكو كقوة إقليمية مهيمنة في قلب الشرق الأوسط. كما يعمل تقدم المليشيات العراقية واللبنانية الشيعية على توسيع نفوذ إيران إلى ما هو أبعد كثيراً من المحور الشيعي التقليدي، ليصل إلى المناطق السنية في شمال سورية. وعلى الرغم من أن الجيش السوري يحصد الانتصارات، فإن الثوار والخبراء العسكريين وأشرطة الفيديو التي يصورها المقاتلون أنفسهم تقول أن الذي يحرز معظم التقدم تقريباً هو حركة حزب الله اللبنانية، ولواء بدر العراقي، وحركة النجباء، وغيرها من الميليشيات الشيعية العراقية التي ترعاها ايران.
في الأثناء، أصبح ريف حلب خاوياً. فقد تدفق عشرات الآلاف من الناس شمالاً باتجاه الحدود التركية هرباً من الغارات الجوية، حيث تغلق الحكومة التركية التي تستضيف مسبقاً 2.5 مليون لاجئ سوري أبوابها في وجوههم.
ويحكي الهاربون قصصاً عن قرى كاملة يتم سحقها ومجتمعات يجري تشريدها. وقال محمد النجار، أحد سكان بلدة المريعية الواقعة في قلب المنطقة الريفية المتنازع عليها، متحدثاً بالهاتف من المنطقة الحدودية مع تركيا بعد أن هرب من بلدته قبل أسبوع، إن ما لا يزيد على 5 في المائة من بلدته فقط ظل قائماً. كما فقدت عائلته الممتدة 15 بيتاً منذ بدأ الهجوم على حلب قبل أسبوعين. ويقول إميل الحكيم من المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، إن إجبار الناس على الخروج من منازلهم شكل منذ فترة طويلة جزءا من استراتيجية الحكومة السورية.
وأضاف الحكيم: “إنهم يفرغون السكان من المناطق التي تستحيل استعادة ولاء قاطنيها. إنها وسيلة أرخص وأسهل بكثير لاحتلال الأراضي من محاولة كسب القلوب والعقول. إنهم يدفعون الناس ببساطة إلى الخروج حتى لا يكون هناك أي تمرد”.
بالنسبة لتركيا، فإن أكبر مكامن القلق هو أن يشغل الأكراد الفراغ الذي ينشأ على طول حدودها، والذين أصبحت أحلامهم بالاستقلال أقرب كثيراً بفعل الفوضى في سورية.
وكانت وحدات حماية الشعب تستفيد مسبقاً من الضربات الجوية الأميركية في شرق سورية لتوسيع الجيب الكردي هناك. وهي تستفيد الآن من الضربات الجوية الروسية حول حلب للتوسع شرقاً من عفرين، الجيب الكردي الآخر في الغرب. والهدف الكردي المعلن هو ربط الجيبين في منطقة كردية ممتدة واحدة، والتي سيكون من شأنها أن تغطي أكثر من نصف مسافة الحدود التركية مع سورية.
وقد تسبب التوسع الكردي بنشوء احتكاك بين واشنطن وأنقرة، لأن تركيا تنظر إلى وحدات حماية الشعب على أنها تابعة للمنظمة الكردية التركية المعروفة باسم حزب العمال الكردستاني، والتي تعتبرها الولايات المتحدة وتركيا منظمة إرهابية. لكن الولايات المتحدة لا تعتبر وحدات الشعب الكردية مجموعة إرهابية، وقد عملت بشكل وثيق إلى جانبها في الحرب ضد مجموعة “الدولة الإسلامية”.
الآن، يقوم المقاتلون المتحالفون مع الأكراد والعرب تحت قيادة وحدات حماية الشعب الكردية بتضييق الخناق على بلدة عزاز الحدودية التي تسيطر على أكبر بوابة تركية إلى سورية. وقد فتحت المدفعية التركية نيرانها يوم السبت، ومرة أخرى يوم الأحد، ضد قريتين وقاعدة جوية سيطر عليها الأكراد في تقدمهم الأخير –رداً على ما قال بيان عسكري تركي إنه قذائف أطلقتها وحدات حماية الشعب الكردية وهبطت في قاعدة عسكرية داخل تركيا.
في إثر القصف التركي، تحدث نائب الرئيس الأميركي بايدن هاتفياً مع رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو يوم السبت، لحث تركيا على وقف قصفها. وأكد بايدن على “ضرورة نزع فتيل التوتر في المنطقة”، وفقاً لبيان صدر عن البيت الأبيض الأحد. وبشكل منفصل، دعا بيان لوزارة الخارجية الأكراد إلى “عدم الاستفادة من الوضع المرتبك للاستيلاء على أراض جديدة”.
ولكن، وفي غضون ساعات من هذه الدعوات، استولى الاكراد على قرية أخرى في ريف حلب الشمالي، عين دقنة، واستأنفت تركيا قصفها أيضاً.
ويقول فيصل عيتاني، من مجلس الأطلسي في واشنطن، إنه ليس هناك مزاج في تركيا لخوض حرب في سورية، ولكن خطر التصعيد غير المقصود يبقى حقيقياً. لقد بلغ التوتر بين روسيا وتركيا، الدولة العضو في حلف شمال الأطلسي، مستويات عالية مسبقاً بعد إسقاط تركيا طائرة روسية في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وقد تؤدي أي حسابات خاطئة بسرعة إلى إثارة رد روسي.
وأضافي عيتاني: “إن تركيا تتعرض لضغوط هائلة. لديها شبه دولة كردية تنشأ على حدودها، في حين أن المجموعات التي تدافع عنها يجري تدميرها”.
في الأسابيع الأخيرة، تحدثت المملكة العربية السعودية هي أيضاً عن إرسال قوات إلى سورية، وهو ما أثار بعض التكهنات بأن المملكة ربما تستعد لدعم توغل تركي. ومع ذلك، قال وزير الخارجية السعودية عادل الجبير يوم الأحد إن الرياض لن ترسل قوات خاصة إلا إذا قررت الولايات المتحدة أن هناك حاجة إلى قوات برية للقتال ضد مجموعة “الدولة الإسلامية”. وقال في مؤتمر صحفي عقد في الرياض: “ولذلك، فإن مسألة التوقيت لا تعود إلينا”.
*ساهم زكريا زكريا في إعداد هذا التقرير.
*رئيسة مكتب صحيفة الواشنطن بوست في بيروت. أمضت أكثر من 15 عاماً وهي تغطي منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك حرب العراق. وشملت تقارير أخرى أخباراً عن أفريقيا والصين وأفغانستان.
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
صحيفة الغد